مغالطات في التفكير النقدي

مغالطات في التفكير النقدي

speaker_icondisk
ipod

المقدمة

في حلقة سابقة تكلمت عن الكشف عن المغالطات، وتحدثت عن أربعة أنواع من المغالطات، الأولى كانت “رجل القش” (Straw Man)، والثانية كانت “ضد الرجل” (Ad Hominem)، والثالثة “الارتباط لا يعني التسبب” (Correlation does not mean causation)، وأخيرا مغالطة “ليس اسكتلنديا حقيقا” (No true Scotsman)، هذه الأربعة أنواع من المغالطات نحن نستخدمها دائما في حياتنا اليومية إذا ما تجادلنا، وقد تعودنا على تقبلها وإن كانت تمرر الكثير من الأخطاء، ومع القليل من الانتباه لهذه الأنواع والأنواع التي سأذكرها لاحقا ستبدأ بفك شفرة المغالطات، وسيصبح من الصعب أن تمر عليك فكرة من غير أن تكون أكثر حذرا مما يختبئ في جوفها.

بسرعة أذكركم بالمغلطات الأربع ثم نكمل

1. الرجل القش: وهي حينما يجادلك شخص في نقطة ويجد صعوبة في مقارعة الفكرة بحجة قوية، يلجأ لاستبدال الفكرة بأخرى ضعيفة، ثم يهجم على الفكرة الضعيفة، فيعتقد المستمع أن نقطتك تم دحضها.

2. ضد الرجل: هو أن تضرب بالشخصية بدلا من الفكرة، فتكره الناس بالفكرة بتكريههم بالشخص.

3. الارتباط لا يعني التسبب: وهو أن تشاهد حدثين يتزامنان مع بعضهما البعض، فتعتقد أن هذا التزامن يعني السببية.

5. ليس اسكتلنديا حقيقا: وهو أن ترفض كل دليل مضاد بإخراجه الدليل من دائرة الأدلة الحقيقية.

راجع الحلقة السابقة حتى تستمع للأمثلة المختلفة.

اليوم سأتكلم عن عدة مغالطات أخرى ولكن هذه المغالطات ستكون في التفكير النقدي، قد تكون جدلية، ولكنها هي أقرب لعوائق التفكير السليم في التحليل المنطقي، في هذه الحلقة سأشرح ثلاث مغالطات، وهي “الانحياز التأكيدي” (Confirmation Bias)، “ورسوخ الاعتقاد” (Belief Persistence)، وكذلك “الاختصارات العقلية باستخدام الخبرة” (Using Heuristics as mental shortcuts).

لنتذكر أيضا أنني استخدمت شن وطبقة حينما أردت أن أكون جدلا بين طرفين، وقد تم تصحيح نطق كلمة شن، حيث أن الكملة الصحيحة هي شَن وليس شِن.

الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias)

ربما هذه واحدة من أهم الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الناس، وأعتبرها من أهم المغالطات التي يجب الانتباه لها، الكثير يقع فيها ولكن لا ينتبه لها، وتحدث بكثرة وافرة في أي جدل يدور بين أي شخصين، وستجد حدة مثل هذه المغالطة ترتفع إذا كان هناك ارتباط عاطفي مع الموضوع، هذه المغالطة تسمى بمغالطة الإنحياز التأكيدي، والانحياز التأكيدي هو أن ينحاز المجادل أتوماتيكيا إلى أي فكرة تؤكد حجته، ويترك كل ما يخالفها، فهو يقوم بانتخاب وتذكر المعلومات بانتقائية بحسب توقعاته المسبقة، أو أنه يحاول تبرير المعلومات بحيث تنحاز هذه التبريرات إلى معتقداته (وخصوصا إذا كانت المعلومات مبهمة).

شن: قرأت على الإنترنت أن بعض الأشخاص لديهم القدرة على التأثير على الآخرين من خلال توجيه وتركيز أفكارهم ناحيتهم، هل لاحظت يا طبقة أنه حينما أركز على شخص بعيني بقوة أستطيع أن أصيبه بالصداع.

طبقة: أنت جربت تركيزك على 10 أشخاص، وواثنان منهم فقط أصيبا بالصداع، ماذا عن الباقين؟

شن: نعم، فعلا إثنان منهما أصيبا بالصداع، لقد نجحت التجربة، فعلا ما قرأته في الإنترنت صحيح، من الآن فصاعدا يجب عليك الانتباه مني وإلا سأصيبك بصداع لا ينفك إلا بالطلاسم.

هنا تلاحظ أن شن يعتقد بوجود قدرة لديه على إصابة الآخرين بالصداع، كوّن هذا المعتقد بناء على قراءاته الغير صحيحة على الإنترنت، ومن خلال ملاحظاته الغير دقيقة قرر أنه هو السبب في إصابة الناس بالصداع، مع أن طبقة نوهت أن 80% من الناس لم يصبهم الصداع رغما عن التركيز، إلا أن شن قرر أن يتجاهل فشله، وركز على النجاح، وهذا هو جانب من جوانب الانحياز التأكيدي، وهو أن تنتقي النجاح وترفض النظر في الفشل.

ولو أردنا أن نكون أدق لقلنا أن تركيز شن من الممكن أن يعالج الإصابة بالصداع من خلال التركيز وليس العكس، لاحظ أن 80% من الناس لم يصبهم الصداع، تخيل لو أن 10 أشخاص كان فيهم صداع وركز عليهم شن لتسبب شن بعلاج 8 منهم، إذن من الممكن أن ندعي أن لشن قوة على علاج الصداع بالتركيز، أليس كذلك؟ وربما يكون ذلك أكثر دقة مما يعتقده شن، ولكن حتى هذا الادعاء خاطئ، وهنا لابد من الانتباه إلى أنه لا يمكن في الأساس أن يقال لمثل ما قام به شن هو تجربة، التجربة لابد أن تكون لها ضوابط وموانع لأي تأثيرات أخرى غير موضوع  التجربة، فلو أن شن أراد التجربة فعليه أن يتأكد من عدم وجود شخص واحد مريض مسبقا، أو أن كل الأشخاص في نفس الحالة النفسية بحيث لا تكون هناك ضغوطات تسبب الصداع، وهكذا، فلا يمكن أن يعتبر إصابة أي شخص من الأشخاص بالصداع إنما هو بسببه، وخصوصا إن كانت هناك أمور أخرى قد تكون خلف السبب.

ولو أننا افترضنا أن شن ادعى أن مثل هذه الأمور لا تنجح في كل مرة، فمن الممكن أن تنجح في مرة وتفشل في مرة، ولكن بالتأكيد أنه حينما تنجح فهي بسبب قوة تركيزه، لنتفق مع شن، وإذا اتفقنا معه، لا نزال نستطيع أن نقوم بتجربة تثبت أو تبطل ادعاءه، حيث من الممكن إثبات تأثير التركيز على الناس إحصائيا.

أما النوع الثاني من الانحياز التأكيدي هو أن يفسر الشخص الأدلة التي لا تتناسب مع المعتقد المسبق بطريقة لتتماشى الأدلة معه، تخيل مثلا لو أن شن يستطيع باستخدام التركيز على عملة مرمية في الهواء أن يجعلها تقع على الصورة، فيرمي العملة إلى الأعلى لتسقط على الأرض، فيركز، على العملة، فيصيب، وتقع العملة على الصورة، ثم يجرى التجربة مرة أخرى، ولكن حتى مع تركيزه لم تنزل العملة على الصورة، ماذا ستتوقع أن يقول شن؟ أتوماتيكيا سيلوم كل شيء إلا حقيقة التركيز، فمثلا من الممكن أن يقول أن تركيزه لم يكن كالمرة الأولى، أو أن الظروف أثرت فيه فأربكته قليلا، أو أن هناك تأثير لتركيز شخص آخر، اللوم يقع على كل ما يمكن أن يؤثر على التركيز، ولكن مبدأ التركيز سيكون راسخا بالنسبة لشن، وهذا تبرير واضح وتفسير بطريقة تجعل الأمور تتناسب مع اعتقاده.

ولكن لو أن نفسك طويل وأردت أن تعطي شن الفرصة في إثبات نفسه يمكنك إجراء التجربة عدة مرات، وبإمكانه أن يكرر تجربة التركيز على العملة 100 مرة، وحتى تكون التجربة أكثر دقة لابد أن تضع العملة في غرفة ليس فيها أي تأثير للهواء، ولابد أن تكون العملة متساوية الوزن في جانبيها (حتى لا تنحاز العملة للسقوط على جنب دون آخر)، وأن ترمى العملة في كل مرة بنفس الطريقة (مثلا من خلال آلة دقيقة)، وأمور أخرى تضمن عدم وجود أي تأثير غير منضبط عليها، عندها نبدأ بالقياس، في التجرب قد يصيب شن مرات ويخطئ مرات أخرى، لا بأس، سنعطيه الحق بأن يخطئ بسبب الظروف الخارجة عن إرادته (مثل تركيزه)، وبعد الإحصاء نتساءل: ما هي النسبة التي من الممكن أن تعطينا تأكيدا بأن شن لديه القدرة على توجيه العملة للوجه المطلوب؟

إحصائيا، لابد للعملة أن تقع على وجهها أكثر من 50% (بنسبة واضحة)، لماذا؟ لأنك لو رميت العملة عشوائيا ومن غير أي تأثير خارجي 100 مرة ستجد أن  نزولها على الوجهين سيكون متكافئا،  أي أن العملة ستقع على وجهها 50% من المرات وعلى الكتابة 50% من المرات تقريبا، إذن، حتى نصدق أن شن لديه قدرة التأثير على العملة، لابد أن تظهر أن قدرته هذه هي أفضل من العشوائية، وإلا سواء أركز شن على العملة أم لم يركز فكلاهما يأتي بنفس النتيجة، فلا فرق بين النتيجة العشوائية وبين تركيزه على العملة، أي أنه لم يضف شيئا باستخدام التركيز، وعندها يمكن رفض معتقد شن والإطمئنان إلى أنه لن يؤثر على الدماغ لإصابة طبقة بالصداع ولا القمار لتحكمه بالعملة.

وهذا يذكرني بأمريكي كنت أعرفه أثناء دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية، حينما كنت هناك كان لي صديق مكسيكي تزوج من أمريكية، فتعرفت على أخوها، وهو مسيحي، ولكنه مسيحي متزمت، ويرى الأمور بطريقته الخاصة، أتذكر تماما حينما كان يصف لي كيف أن الله يترك له إشارات هنا وهناك وواحدة من هذه الإشارات هو رقما معينا (لا أتذكر الرقم، ولكني أذكر أن كان شيئا وسبعين)، فكان يقول لي أنه رأى هذه الرقم في لوحة السيارة التي أمامه، ونفس هذا الرقم أيضا موجود في رقم الضمان الإجتماعي له، وأمور أخرى، وكان يرى إشارات خاصة له من الله في هذه الأرقام، ويحاول أن يربط بين رؤيته للأرقام في تلك اللحظة مع حدث معين، وكنت في تلك الأيام أذكره أنه حينما يقود السيارة فإنه يرى العديد من الأرقام، ولكنه يبدو أنه اختار أن يركز على رقم معين، وكذلك في رقم الضمان الاجتماعي، وفي أي من الأرقام الأخرى، كم عدد الأرقام التي يمر عليها يوميا؟ إنها كثيرة جدا، ولكنه ركز على الأرقام التي ترتبط في فكرة مبسقة في ذهنه، وكأنه حدد النتيجة في البداية، ثم بحث عن الأدلة التي تدعم النتيجة، وإن كان من المفروض أن تأتي النتيجة لاحقا وبعد النظر في الأدلة المتفقة والمخالفة للفرضية.

إذن، في مغالطة الإنحياز التأكيدي هناك من يتجاهل الفشل وينتقي النجاح، أو أنه يفسر الأمور بطريقة تتناسب تماما مع معتقده المسبق، الكثير من الناس تقوم بذلك لأنها لا تريد أن تتحدى مفاهيم مسبقة. والمشكلة التي تنتج من مثل هذا النوع من المغالطات أن كل الأطراف باعتقاداتها المختلفة وإن اختلفت اختلافا مطلقا متناقضا في أفكارها إلا أن كل منها يرى الأدلة في صالحها، ليس لأن الأدلة فعلا تقف مع كل طرف، ولكن لأن كل طرف ينتقي ما يشاء من أدلة ليدعم اعتقاده، وإن لم تدعم الأدلة اعتقاده فسرها  بطرق تلوي الأدلة لصالحه، والدراسات تبين أنه حينما نتخذ موقفا معينا فإننا نجد أنفسنا مدافعين أو معللين لذلك الموقف، وقد دلت التجارب العلمية الكثيرة على أن الانحياز التأكيدي موجود بوضوح كتصرف خارجي، وحتى أنه موجود على مستوى المخ.

أقميت دراسة في أمريكا على 30 شخصا، نصفهم جمهوريون متعصبون، والنصف الآخر ديمقراطيون متعصبون أيضا، وفي هذه الدراسة قام العلماء بعمل مسح للمخ أثناء التجربة، وكانت التجربة كالتالي، قُدم لكل طرف كلمات تلفظ بها كل من جورج دبليو بوش (الجمهوري)، وجون كيري (الديمقراطي) (كانت هذه في انتخابات سنة 2004)، وكانت الكلمات متناقضة مع موقف المرشح ذاته، أي أن كلمات جورج بوش متناقضة مع مواقفه، وكذلك بالنسبة لجون كيري فكلماته متناقضة معه، وبعد أن عرضت هذه الكلمات على الـ 30 شخصا، لاحظ العلماء أن الجمهوريون تركوا المرشح بوش وشأنه دون أي انتقاد، وانتقدوا كيري، والديمقراطيون انتقدوا بوش وتركوا كيري.

المهم في هذه التجربة ما لاحظوه في مسح المخ، وهو أن النشاط في الأجزاء المسؤولة عن التفكير والتحليل والمنطقي كانت هادئة، بينما تلك الأجزاء من المخ المسؤولة عن العاطفة كانت نشطة جدا، أي أنه حينما تواجه الشخص أفكار متناقضة فإنه يفكر بها عاطفيا، ويحاول عقلنة تلك الأمور التي تتحدى ما يؤمن به مسبقا، الجمهوري لا يحب أن يكون جورج بوش متناقضا مع نفسه، فتنطلق العاطفة لتبرر هذه التناقض، لتشعر الشخص بارتياح.

إذا أردت أن أقرب لك المعنى في المنطقة التي نعيش فيها، أنت الآن تنتمي لطائفة أو دين معين، اختر شخصية أنت تحبها، لو أنك سني مثلا اختر شخصا تحبه تعتبره مرموقا دينيا، وإذا كنت شيعيا اختر شخصا تحبه أيضا، ولو كنت مسيحيا اختر شخصية مسيحية تحترمها، وهكذا بالنسبة للمستمعين الآخرين، الآن إذا كنت شيعيا استمع للشخص الذي تحب، حتى وإن وجدت تناقضات في حديث الشخص لن تعبه لها، بل ستجد نفسك بطريقة أو أخرى تبرر اختلافاتها (تذكر في الانحياز التأكيدي أنت تعيد تفسير الأمور لتتناسب مع إعتقادك)، الآن استمع لشخص من الأطراف الأخرى، ستجد نفسك منتقدا للكثير مما يقوله الشخص الآخر، ما يحدث في تلك اللحظات في مخك، هو بالضبط ما حدث للـ 30 شخصا الذين أقيمت عليهم التجربة، مخك اشتعل في المناطق العاطفية، وبقيت الناحية المنطقية من المخ في حالتها الطبيعية لا تقوم بأي مجهود. ما عليك إلا أن تذهب إلى اليوتيوت لترى لقطات بالآلاف تكشف لك عن المدى الذي وصلنا له في نقد الآخرين خارج الطائفة أو الدين، كلها تدل على الانحيازي التأكيدي.

وأيضا إسأل نفسك: ما هي االمقالات التي تقرأها على الإنترنت، وما هي التي تتوقف عن قراءتها قبل إكمالها، ستجد نفسك تقرأ ما يتناسب مع معتقدك لأنك منحاز له، وقد دلت دراسة من جامعة أوهايو ستيت (Ohio State University) على ذلك، فقد بينت أن الناس حينما تقرأ مقالة تتناسب مع معتقداتها فإنها تقضي 36% من  الوقت في مطالعة مقالة في نفس التوجه عن مقالات أخرى مضادة للتوجه.

وهناك أيضا دراسة قامت بها عالمة السيكولوجي ديانا كون (Deana Khun) مع زملائها تبين أن حتى المحلفين حينما ينظرون في قضية فإنهم أحيانا يقومون باتخاذ القرار في أن المتهم بريء أو مذنب قبل النظر في الأدلة، وثم بعد ذلك يقومون بانتقاء الأدلة التي تتناسب من قرارهم، ما قامت به هي أنها أسمعت محلفين تسجيلا صوتيا لجريمة حقيقة، واكتشفت أنه بدلا من النظر في الأدلة أولا ثم الوصول للنتيجة، قاموا بتوليف قصة لوقائع الحدث في أذهانهم بعد سماع التسجيل ثم اتخذوا القرار، ثم انتخبوا الأدلة المناسبة التي تتماشى مع القرار، مصيبة في الحقيقة أن نكون نحن كذلك.

رسوخ الاعتقاد (Belief Persistence)

مغالطة أخرى يجب أن تنتبه لها تسمى بتأثير الصدارة (Primacy Effect)، وهي أن المعلومات التي تتلقاها أولا هي التي تحفظها أولا وقبل المعلومات التي تأتي لاحقا، لاحظ نفسك حينما تريد أن تحفظ قائمة من المشتروات أو آيات من القرآن الكريم، ستلاحظ أن حفظك لقائمة الأشياء في البداية هي الأقوى، وهي الأكثر تذكرا، ولو أنك كونت رأيا مبررا بعد ذلك في هذه المعلومات التي تلقيتها في الصدارة، فإنها تخلق لديك إيمانا بها لا يمكن زعزعته بسهولة حتى لو كانت الأدلة تبين عدم صحة تلك المعلومات التي تلقيتها بداية، وهذا يسمى بثبات أو رسوخ الاعتقاد أو الإيمان (Belief Persistence)، وتصل بالناس أحيانا إلى مرحلة أن تفسر المعلومات التي تقف ضد معتقداتها على أنها معه باستخدام الانحياز التأكيدي، والمشكلة الكبيرة أن بعض هذه المعتقدات التي تتكون لدى الشخص تتفوق في رسوخها  مستوى الأدلة التي تدعمها (أي أن رسوخها وثباتها لا يتناسب مع مستوى الأدلة التي تدعم ذلك الإيمان)، ولو أثبت بالأدلة القاطعة أن الفكرة الأولى كانت خاطئة كان من الصعب جدا تغييرها، لذلك ترى أن هناك تسابق لتثبيت فكرة في أذهان الناس منذ الطفولة حتى تظل تلك الفكرة مع الشخص حتى وإن كبر، وحتى إن أتت الأدلة الصحيحة ضد المعتقد الأول فإنها تبقى الأفكار راسخة غير قابلة للتغيير، وكأنما الفكرة الأولى كالحب الأول لا يمكن أن يمحى من الذاكرة بسهولة.

لابد أنك يوما من الأيام كنت تناقش أو تجادل أحد الأصدقاء، ومهما حاولت بكل الأدلة أن تقنع الطرف الآخر بأن ما يعتقده هو خطأ في ظل الأدلة المتوفرة، إلا أنه لا يتزعزع مسافة نانو مترا واحدا، أليس كذلك؟ على  افتراض أن هذه الأدلة التي تقدمها له هي بالفعل صحيحة، ما الذي يمنع الصديق من أن يقبل بهذه الأدلة؟ (وقد نكون نحن أيضا ضحية لعدم قبول الأدلة وإن كانت صحيحة).

هناك العديد من الدراسات التي تبين المدى الذي يمكن للإيمان أن يبقى في أنفس الناس حتى لو كان خاطئا، في بعض التجارب يقوم العلماء برزاعة إيمان خاطئ في أشخاص، إما عن طريق الإدعاء بأن الأفكار هي صحيحة أو عن طريق دعمها بالقصص (تذكر حلقة الدليل بين السرد القصصي والعلم التجريبي، ذكرت مدى تأثير القصة على الناس). بعد أن زرعت الفكرة يطلب من الأشخاص المشاركين في التجربة أن يشرحوا السبب الذي يجعل تلك الأفكار صحيحة، لاحظ هذه الخطوات الخطيرة، أولا تزرع فكرة غير صحيحة، ثم يطلب من الشخص أن يكون رأيه فيها، وهذا الرأي سيعتمد على الإنحياز التأكيدي حيث أنه سيقوم بانتقاء أدلة تتناسب مع ايمانه بصحة الفكرة المزروعة، وهذا يرسخ الفكرة في ذهن الشخص الذي زرعت فيه. تخيل مثلا أن أقول لك: “أن إذا مرضت وارتفعت درجة حرارة جسدك، اسكب قليلا من الماء على الأرض ثم قف حافي القدمين عليه، ورفرف بيديك، وستتحسن صحتك”، ثم أقول لك: “أن هذه الطريقة اكتشفت عن طريق دراسة علمية نشرت في مجلة مرموقة” ثم أطلب منك أن تبرر: “هل من الممكن أن تقول لي ما السبب في نجاح مثل هذه الفكرة في رأيك؟” أولا أنت مقتنع أن هذه الفكرة صحيحة، ستفكر في كيفية تبريرها، فمن الممكن أن تقول: “أعتقد أن الماء سيبرد الجسم من الأسفل، بينما حركة اليد تطرد الحرارة إلى الأعلى، وهذه تخفف من درجة حرارة الجسم، لذلك ستشعر بتحسن” هنا تثبت الفكرة، وتصبح إيمانا لا يمكن زعزعته بسهولة.

الآن نعود للتجربة، بعد تثبيت الاعتقاد، يقوم العلماء بعدها بأيام بإخبار المشاركين في التجربة بالحقيقة، وهي أن الفكرة التي أُخبروا بها إنما كانت غير صحيحة وأنها كانت مفبركة (وفي المثال السابق من الممكن القول أن الوقوف على الماء ورفرفة اليديدين كانت فكرة كاذبة، وليست هناك دراسة تثبت هذا الشيء)، ماذا تتوقع أن يحدث الآن؟ هل تتوقع أن يلغي المشاركين الفكرة من أذهانهم أو أنهم يقبلوا بأن الفكرة غير صحيحة؟ لا، الواقع أن 75% المشاركين يبقون على الإيمان الذي زرع فيهم، ويبقون ثابتين على شرحهم لأسباب صحة الفكرة. رقم هائل أن يبقى 75% على إيمانهم بالفكرة وإن كانت غير صحيحة نهائيا، الأخطر أن مثل هذا الأمر من السهل القيام به، هي مجرد خطوات بسيطة. الخلاصة في هذه النقطة، وهي الخلاصة المهمة جدا، وهي أن التجارب تدل على أنه كلما حاولنا أن نبرر المعتقدات  لأنفسنا كلما أصبحنا غير قابلين لتقبل معلومات جديدة تناقضها وتتحداها، حتى وإن كانت مدعمة بالأدلة.

السؤال هنا، هل يمكن التغلب على مثل هذه المشكلة؟ نعم، ربما تعتقد أن المعتقدات الباطلة الراسخة يمكن دحضها عن طريق الطلب من الشخص بأن يكون منطقيا وغير منحاز، “شن، أرجوك أن تفكر بمنطق وبعقل، لا تنحاز لأفكارك”، تخيل أثناء محاولتك لعرض الأدلة لصديقك طلبت منه أن ينظر في هذه الأدلة بأسلوب منطقي وبلا انحياز لأفكاره المسبقة، الحقيقة هي أن هذه الطريقة لا تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، ولا تغير الشخص كما دلت التجارب، الطريقة التي يمكنك فيها أن تغير الشخص هي أن تطلب منه أن يأخذ بعين الاعتبار الرأي الآخر المناقض، أطلب منه أن يتخيل لو أنه على الطرف المناقض، كيف سيرى الأمور؟ أطلب منه أن يحاول أن يبرر للطرف المناقض له رأيه، أو اطلب منه أن يحاول أن يطرح حلولا مختلفة حتى لو لم تكن مناقضة لمعتقده، التجارب تدل على أنه حينما يقوم الشخص بالنظر بالطرف المناقض وفي محاولته لتبرير الرأي المناقض ينخفض مستوى الانحياز، والأفضل أنه يتسبب بإلغاء رسوخ الاعتقاد، لأنه يدفع الشخص لاكتشاف طرق جديدة في التفكير.

الاختصارات العقلية باستخدام الخبرة (Using Heuristics as mental shortcuts)

الوقت يداهمك، وأنت تحاول أن تتجادل مع الطرف الآخر، تريد أن تجد إجابة سريعة ومقنعة للطرف الآخر، تريد تحطيم رأيه، ماذا تفعل؟ هل تترك المناقشة لتبحث في الكتب والأوراق العلمية، وتحلل وتفكر ثم تجيب على صديقك الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة خبثية بعد أن ألقى عليك حجة قوية؟ لا طبعا، ستستحضر المعلومات القريبة منك، الحاضرة في الذهن، أنت ستسخدم الاستدلال باستخدام اختصارات عقلية، الاختصارات هي طرق سريعة وعالية الكفاءة، ولكنها أحيانا تكون خاطئة.

لنجرب هذه التجربة معا، أريدك أن تجيب على السؤال بعد أن أقدم لك بعض المعلومات، تقدم 70 مهندسا، و30 محاميا لمقابلة، وبعد مقابلتهم جميعا سُجلت معلومات بسيطة عن كل شخص في أوراق، وأدخلت هذه الأوراق في كيس، ثم سحبت ورقة من هذه الأوراق عشوائيا، وكان الوصف فيها كتالي:

“تزوج وطلق مرتين، أنس الصيدفي يقضي معظم وقت فراغه في النادي، غالبا ما تتمركز  حواراته في النادي حول ندمه لاتباعه لخطوات أبيه، والساعات الطويلة التي قضاها كادحا في الدراسة الأكاديمية كانت من الممكن أن تستثمر بشكل أفضل في تعلم كيفية التواصل من غير جدال مع الآخرين في علاقته معهم.”

السؤال الآن هو: ما هو الاحتمال أن أنس الصيدفي هو محاميا وليس مهندسا؟

فكر قليلا، ثم أجب، الدراسة هذه قامت بها جامعة أوريجون (University of Oregon) على طلابها، اعتقد  الطلاب أن الاحتمال الأقوى هو  يكون أن الشخص الذي ذكرت صفاته محاميا، وربما أنت تتفق معهم، أليس كذلك؟ وخصوصا أن الوصف ربما يشعرك بذلك، الإجابة خاطئة بالطبع، ذكرت في بداية الأمر وبكل وضوح أن نسبة المهندسين كانت 70% والمحاميين كانت 30%، ذلك يعني أن الاحتمال الأقوى أن الورقة المختارة عشوائيا ستكون لمهندس وليست لمحامي، والحقيقة أن الوصف الذي ذكرته عن الشخص ليس فيه أي دليل واضح على أن الشخص هو محامي. والتجربة التي أقيمت على طلاب جامعة أوريجون بينت أن 80% من الطلاب اختاروا المحامي على المهندس، وهذا خطأ فادح في التفكير.

لماذا يا ترى وقعنا في الاختيار الخاطئ، بالضبط بسبب الاختصارات في التفكير، واحدة من الاختصارات هي أن تستخدم علاقات موجودة في عقلك وعموميات وطرق للتصنيف تاركا حقائق علمية إحصائية دقيقة (الوصف الذي وصفته يسمى بـ Representativeness Heuristic). أي حينما تكون بحاجة للحكم على الشيء احتماليا، وكانت هناك صعوبة في إصدار الحكم، تقوم بتحويل الصعوبة إلى سهولة من خلال اختصارات تسهل عليهم الحكم.

هناك أيضا اختصار آخر، يساهم في الخطأ في التفكير، وهو الاستدلال بالمتاح (Availability Heuristic)، أحيانا أنت تنظر للواقع من حولك وتنظر له بحسب ما هو أقرب لك من معلومات متاحة في ذهنك، كيف تنظر للأوضاع السياسية الآن، هل تنظر لها على أنها سيئة؟ هل لأن الأحداث السلبية هي الأقرب للذهن؟ ماذا يحدث حينما تشتد الأحداث في المنطقة، هل تفكر في نهاية العالم، هل لأن الأحداث السيئة هي القريبة في ذهنك وهي المتاحة لديك للتفكير بها، ماذا عن الذين يعتقدون بنهاية العالم 2012، كل ذلك لأن المعلومات القريبة في أذهانهم هي عن كوكب نيبرو الذي سيصطدم بالأرض، مع أن الأرض عمرها الآن 4.5 مليار سنة، ولا تزال كما هي، ومع أن العلماء يقومون بتوفير المعلومات الدقيقة لدحض فكرة اصطدام كوكب وهمي في الأرض إلى أن هذه المعلومات غير متوفرة في أذهان أولئك الأشخاص فيلجؤون لانتقاء ما هو أقرب إليهم، والاستدلال به.

لماذا ننحاز للمعلومات التي تؤكد صحة ما نعتقده بدلا من أن نبحث عن الحقيقة؟ ربما لأننا لا نحب أن نكون مخطئين، ربما لأننا بعد أن استثمرنا كل وقتنا في التعلق بتلك الفكرة التي بدأت بنا (وليس بدأنا بها) أصبح من الصعب علينا التنازل عنها، وبالذات أن هذا الاستثمار عاطفي وربما جعلنا الفكرة جزء من هويتنا، لماذا ننحاز للمعلومة؟ هل لمجرد أنها كانت الأولى وقمنا بتبريرها؟ هل هذا يكفي لأن يكون عذرا للبقاء مع الفكرة وإن كانت خاطئة؟ لماذا نستخدم الاختصارات؟ ربما لأن المخ يعمل بهذه الطريقة البسيطة، ولكن ما الحل؟ أول الطريق هو الانتباه لمثل هذه المغالطات في التحليل النقدي، والحل أيضا يكمن في استخدام أدوات التفكير الصحيحة، سأخصص حلقة كاملة لأدوات التحليل، حتى نستبدل طرق التفكير السقيمة بأخرى سليمة، ولكن في الفترة الحالية، أقضي وقتك مع أفكارك الحالية، وحاول أن تنتقدها قبل أن تنتقد أفكار الغير، حاول أن تتفادى أن تحكم على أفكارك بلا انحياز، حاول أن ترى كيف يمكن أن تكون الأفكار المقابلة هي أفكار صحيحة، فكر في احتمالات أخرى، لا تبحث أن أفكار تتواءم مع أفكارك لترتاح وأنت في دائرة خاطئة، إبحث عن الفكر الصحيح وإن كان مناقضا لها، ربما لن تنام لاصطدام الأفكار مع ما تعتقده، ولكنك سترتاح لمعرفتك للحقيقة.

عن محمد قاسم

د. محمد قاسم هو أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية في الكويت، يحاضر في قسم الهندسة الإلكترونية، يعد ويقدم السايوير بودكاست (برنامج علمي تكنولوجي صوتي)، وكذلك يكتب في موقع الجزيرة (علوم)، ويشجع ويحث على العلم بشغف كبير.

شاهد أيضاً

بلوتو، الأفق الجديد

رحلة نيوهورايزون إلى الكوكب القزمي بلوتو حدث تاريخي حدث اليوم بتاريخ 14/7/2015 في الساعة 11:49 …

8 تعليقات

  1. بالنسبة لتجربة المحامي، طلب من الناس الاستنتاج فلابد أن يعتمدوا على مهارات وخبرات، والمثال المقدم لهم هو فخ وليس حقيقيا من تجربة حقيقية، وفي التجربةالخاصة برسوخ الاعتقاد عن طريق تقديم معتقد خاطئ ثم إعلان زيف هذا المعتقد، الناس تدخل في صراع مابين تصديق المرة الأولى أم تصديق المرة الثانية، فما الذي يدفعهم للتصديق المرة الثانية إذا كنت تعترف إليهم بالكذب في المرة الأولى؟ ، الذي أجرى الاختبار فقد مصداقيته، والحل الوحيد أمام الشخص هو التمسك بأنه ليس لعبة في أيدي أحد، أرى أن من يجرون الاختبار يصبحون هم موضوع الاختبار في هذه الحالة

    • عزيزي طارق، ما ذكرته في تعليقك ليس إلا رأي شخصي، ليس لديك أي دليل علمي عليه، الفرق بين ما ذكرته أنا في البودكاست وما تذكره أنت هو التجربة العلمية التي أقميت، وربما تعتقد أن هناك “فخ” لأنك لا تعرف كيف تجرى التجارب، ولكن ربما تحتاج لأن تقرأ الأوراق العلمية حتى تعرف الفرق بين الرأي الشخصي والتجربة العلمية. ولا شك أن من حقك أن ترد التجربة إن شئت، ولكن طريقة الرد يجب أن يكون من خلال تجربة أخرى حتى تثبت بطلان التجربة السابقة، ولعلك أيضا اعتقدت أن ما قدمته أتى من تجربة واحدة، التجربة التي ذكرتها لم تكن إلا مثلا واحدا من تجارب عديدة على مدى السنوات، لذلك وإن كنت أحترم رأيك، ولكني في النهاية أفضل التجربة على العلمية على تجربتك الشخصية، وليست تجربتك الشخصية إلا واحدة من مغالطات عديدة نحن نقع فيها عادة، وتنتهي بنا إلى ما انتهينا إليه الآن من أفكار خاطئة.

      شكرا لك

  2. السلام عليكم استاذي الفاضل
    حج مبرور وسعي مشكور وبلغ تحياتي لوالدك الكريم على صدور كتابه
    انا من اشد متابعيك تقريا سمعت كل حلقات البودكاست وحلقات اليوتيوب
    تعجبني طريقتك في طرح المواضيع وعرضها واسلوبك العلمي جدا دقيق
    اتوقع لو تألف كتاب راح يحقق نجاح هائل
    بالنسبه لموضوع المغالطات
    بعد ما سمعت البودكاست لقيت ان المغالطات تدخل كثير في حواراتنا ونقاشاتنا بالذات مغالطة ضد الرجل والمشكلة ان اكثر من يستخدمها رجال معروفين. لو كل انسان عرف هذي المغالطات ما راح يتأثر بالكلام الظاهري وراح يعرف يتحقق من اختياراته وانحيازه للافكار او الاشخاص.
    عالعموم ,لك جزيل الشكر والتقدير على كل ما تقدمه

    • أهلا رغد، يسعدني أنك متابعة لي ولوالدي، وقد عاد بعد انقطاع أكثر من 30 سنة

      وإنا حاليا أعمل على الكتاب الذي جمعت فيها مواضيع السايوير، وإتمنى أن ينجح

      أما بالنسبة للمغالطات، ففعلا، أنا كثيرا ما أنبه المحاورين معي أن يحاولوا الابتعاد عن المغالطات، وبالفعل، الكثير يقع فيها ولا يدري، ومع الوقت يحذر المحاور منها ويبتعد عنها فيصبح حواره أفضل.

      شكرا لك

  3. محمد بوحليقة

    السلام عليكم دكتور،

    استمعت إلى حلقة البودكاست قبل سنة، وجذبني الموضوع. أنا حاليا في بداية مراحل العمل على بحث عن آثار المغالطات المنطقية على انتشار الإشاعات. أرجو منك التكرم بإرسال مصادر البحث.

اترك رد