1 المركبة كيوريوسيتي والبحث عن الحياة على المريخ

المركبة كيوريوسيتي والبحث عن الحياة على المريخ 1

speaker_icondisk
ipod

مقدمة

نزلت المركبة كيوريوسيتي على المريخ، ولمدة العامين القادمين ستدرس هذه المركبة إمكانية وجود حياة هناك، الإبداع أو الإعجاز سمه ما شئت هو في قدرة المهندسين والعلماء على إنزالها على سطح المريخ، مهمة لم تكن سهلة أبدا، إنزال مشوب بالإثارة والرعب، رعب دام ٧ دقائق، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إنزال مركبة على المريخ، ولكن هذه كانت مختلفة، طريقة الإنزال كانت عبقرية فذة لم تجرب ولا مرة واحدة على الأرض، وتكتمل العبقرية بتركيب ١٠ مختبرات مختلفة على متن المركبة، واحدة من هذه المختبرات تسع مختبرا كاملا على الأرض، صممت القطع المختلفة من عدة دول. اشترك العالم كله في هذه الإثارة، ولكنه لم يشارك أحد نفس مستوى الفخر والعزة الذي أحست به الولايات المتحدة من جراء هذه التجربة.

أفقت الساعة السادسة صباحا لأتابع نزول المركبة وأنا في سياحة في بريطانيا، وبدأت بكتابة تويتات ليتابع معي المتابعين على التويتر، كان يوما مشوقا، كل خطوة لهبوط المركبة كان ذا طعم خاص، تابعت على الإنترنت مباشرة على شاشتين مباشرتين من ناسا، لم أحس انني في غرفة صغيرة في منزل صغير في بريطانيا، بل أحسست وكأنني كنت على سطح المريخ مع المركبة، أتابع لحظة بلحظة وصول المركبة إلى الأجواء ثم انفتاح المظلة ثم انطلاق النفاث وتطاير الغبار المريخي والكرين ثم نزول المركبة على الأرض. وأفقت على صراخ النصر في قاعات ناسا، كل منهم يهنئ الآخر، أنا أيضا كنت أهنؤهم على الإنجاز الهائل – ضمنيا.

القصة لم تنته بنزول المركبة على المريخ، بل كانت تلك لحظة إنطلاقة لقصة جديدة، للبحث عن مقومات وجود حياة على سطح المريخ.

سبع دقائق من الرعب

لقطة أنزلتها ناسا جي بي إل (NASA JPL) على الإنترنت تتحدث عن سبع دقائق من الرعب حينما تصل المركبة الفضائية إلى المريخ، إنها تلك المدة ما بين وصول المركبة إلى الغلاف الجوي للمريخ وبين وصولها إلى السطح، لماذا هي مرعبة؟ لأنها مليئة بالمغامرات الهندسية، أقل خطأ يحدث في أي من الأنظمة الدقيقة ستنتهي المهمة التي انطلقت من الأرض منذ شهر نوفمبر ٢٠١١ إلى أغسطس ٢٠١٢، أي ثمانية أشهر ونصف من السفر إلى المريخ. تلك السبع دقائق فيها من التعقيد في مستوى تقنية الإنزال ما جعل رئيس فريق “الدخول، الهبوط والإنزال” (Entry, Decent and Landing) في جي بي إل – آدم ستلزنر (Adam Steltzner) – يقول عنها: “حينما يراها الناس تبدو أنها جنونية، وهذا أمر طبيعي، أحيانا حينما ننظر لها نحن، تبدو جنونية، إنها نتيجة فكر هندسي منطقي، ولكنها لا تزال تبدو جنونية.”

بداية الهبوط تبدأ حينما تدخل المركبة إلى الغلاف الجوي، والغلاف الجوي المريخي أكثر رقة من الغلاف الجوي الأرضي، تأتي المركبة وتخترق هذه الرقة وهي بسرعة ١٣,٠٠٠ ميل في الساعة، أو ٢١,٠٠٠ كيلومتر في الساعة. تخيل المركبة وهي تطير بسرعة تعادل ٢٠ مرة سرعة البوينج ٧٤٧، أو ١٧ مرة سرعة الصوت، والهدف هو الوصول إلى سرعة الصفر كيلومتر في الساعة عندما تهبط على سطح المريخ، والهبوط يكون في نقطة محددة تم تحديدها قبل سفر المركبة من الأرض، كيف؟ للقيام بذلك كله لابد أن تكون هناك هندسة جنونية.

حينما تدخل الكبسولة إلى الأجواء تتزايد حرارتها بسبب احتكاك الدرع الواقي الموجود في المقدمة، تصل درجة حرارة الدرع إلى ١٦٠٠ درجة مئوية، وذلك ٣٠٪ من درجة حرارة سطح الشمس، فيتوهج الدرع ويضيئ بشدة، لو نظرت إلى الكبسولة سيكون شكلها مثل المخروط المبسوط (تخيل بسكويت الأيس كريم المخروطي، تخيل الآن الضغط على الطرف المدبب لينبسط المخروط ويصبح مثل صحن الستلايت ولكنه مخروطي)، ذلك المخروط  مغطى بغطاء من فوق، وبداخل هذه الكبسولة المخروطية ومن أسفل الغطاء هناك المركبة كيوريوستي، هذه الكبسولة تحمي المركبة من الاحتراق. ولكن الحماية ليست هي الوظيفة الوحيدة للغطاء، بل يقوم الغطاء بتحليل الوجهة التي يجب أن تتوجه لها الكبسولة، وفيقوم بتوجيه الكبسولة أثناء السقوط العنيف بنفاثات من خلف الكبسولة.

تتباطء الكبسولة إلى مرة وثلث سرعة الصوت بسبب احتكاك المخروط بالأجواء، ولكنها لا تزال منطلقة بسرعة هائلة، ولكي تخفف من سرعتها تنفتح مظلة كبيرة، هذه المظلة هي أكبر وأقوى مظلة من نوعها، مصنعة خصيصا لكي تتعامل مع السرعات الفوق صوتية، الكبسولة تحتاج لمظلة تستطيع أن تتحمل هذه السرعة من غير أن تتقطع إربا إربا. لمّا تنفتح المظلة تشتد فجأة على الكبسولة وبقوة كبيرة جدا، فتتباطء أكثر، لا تنسى أن الأجواء في المريخ رقيقة، ذلك يعني أن المركبة لا يمكن أن تخفف من سرعتها بما فيه الكفاية للهبوط بسلام حتى بوجود المظلة (الصورة التالية هي صورة التقطها القمر الصناعي الريكوناسانس أوربيتور Reconnaissance Orbiter أثناء نزول المركبة والمظلة مفتوحة).

صورة حقيقة للمركبة أثناء نزولها إلى سطح المريخ والمظلة مفتوحة، التقط هذه الصورة القمر الصناعي ريكوناسانس أوربيبيتور

بعد أن تخفف الكبسولة سرعتها تحتاج لأن تعرف معلومات دقيقة عن مكانها وارتفاعها في السماء؟ تستطيع أن تعرف هذه المعلومات عن طريق الرادار الموجود بداخل الكبسولة، ولكن الدرع الواقي المخروطي يعيق الرادار، لذلك تقوم بالتخلي عن الدرع الواقي الأمامي، فتلقيه لتظهر المركبة كيوريوسيتي في بطن تلك الكبسولة وأسفل الغطاء، ثم تكمل الهبوط، وتتباطء إلى سرعة 320 كيلومترا في الساعة باستخدام المظلة، تخيل لو أن سيارة تسير بهذه السرعة الجنونية واصطدمت بحائط، ستكون نهاية كارثية للسيارة، لذلك حتى المظلة لا تكفي لخفض السرعة إلى الصفر.

بعد ذلك تلقي الكبسولة بحمولتها التي تحتوي على المركبة كيوريوسيتي والنفاث الملتصق على ظهرها، فتنفصل المظلة عن المركبة وتسقط، من الممكن أن تتخيل هذه التركيبة (تركيبة المركبة كيوريوسيتي مع النفاث) وكأنها سلحفات، هذه السلحفاة لديها أربعة أرجل ممتدة إلى خارج جسمها، اعتبر الأرجل هي النفاثات، تنطلق هذه النفاثات حالما تنفصل عن المظلة، وتحمل المركبة كيوريوسي، وأول مهام النفاث هي الابتعاد عن المظلة، لأنه لو بقي النفاث أسفل منها لوقعت المظلة عليه، لذلك هي تبتعد عنه مسافة كافية، بعد ذلك وباستخدام الكاميرات تحلق المركبة باستخدام النفاثات لتهبط على الموقع المحدد.

قد تتصور الآن أن النفاث سينزل مع المركبة إلى السطح تدريجيا، كما ينزل الهيليكوبتر الركاب، ولكن هذا لن يحدث، لما يشكله النفاث من خطورة على سلامة أجهزة الروفور كيوريوسيتي، فكر كما يفكر المهندس، من أهم ما تهدف إليه كل عمليات الإنزال المعقدة هذه هي سلامة الروفر، ماذا يحدث لو أن النفاث نزل مع الروفر إلى الأرض، لا شك أنه يستطيع أن يقوم بذلك بدقة وبخفة، ولكن المشكلة أنه إذا ما اقترب من السطح سيثير الغبار ليغطي الروفر الكيوريوسيتي، وسيطاير الحصى ليصطدم بأجهزتها الحساسة، وقد تتعطل وتنتهي المهمة حالا بعد الإنزال، ولذلك فكر المهندسون والعلماء خارج الصندوق، وقرروا أن ينزلوا المركبة باستخدام الكرين،   فبعد أن يصل النفاث إلى مستوى معين، تنفصل عنه الكيريوسيتي عن النفاث، ويتم إنزالها باستخدام الكرين، وهي عبارة عن ثلاث خيوط من النايلون، تنزل المركبة 7.5 مترا أسفل النفاث، فتتعلق المركبة كيوريوسيتي أسفل النفاث، بعد ذلك ينزل النفاث تدريجيا إلى أن تلامس أرجل الكيريوسيتي سطح الكوكب الأحمر، تخيل كيفية إنزال هليكوبتر لحمولة متعلقة بالحبال أسفل منه.

كرين ينزل المركبة كيوريوسيتي والتي وزنها طن تدريجيا، والأرجل الستة للكيوريوسيتي مفتوحة، وجاهزة للمس السطح، حتى إذا ما وصلت الستة أرجل تنفصل الخيوط الكرين الثلاث، فيقذف النفاثات نفسه بدفعه قوية بزاوية مبتعدة عن المركبة، فتضمن بذلك أن لا تسقط على الكيوريوسيتي، وأن لا تصيب النفاث ولا الغبار المتطاير أجهزتها. هندسة فذة، هندسة جنونية!

مراحل هبوط المركبة على سطح المريخ

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=Ki_Af_o9Q9s]

كل هذه الحركات المنسقة الرائعة كانت كلها ذاتية، قام بها الكمبيوتر بنفسه، لم يتدخل فيها أي شخص من على الأرض، كلها مبرمجة مسبقا للتعامل مع الأوضاع هناك باستقلالية، لماذا؟ لأن هناك فارق زمني بين إرسال رسالة من الأرض إلى المريخ ومن المريخ إلى الأرض، هذا الفارق الزمني هو ١٤ دقيقة ذهابا، و14 دقيقة إيابا، ولو أن ناسا أرادت التحكم في المركبة فعليها أن تعرف تفاصيل حالة المركبة لحظيا، وهذا أمر مستحيل، النزول برمته يستغرق ٧ دقائق، ولو أن المركبة وصلت إلى الغلاف الجوي وأرسلت رسالة إلى ناسا لتخبر المهندسين أنها وصلت إلى الغلاف لاستغرقت الرسالة ١٤ دقيقة للوصول، ولو أن ناسا أرادت توجيه رسالة إلى المركبة للقيام مناورة معينة، لأخذت الرسالة 14 دقيقة أخرى للوصول، ولو أن المركبة كانت في خطر، لما كان بالإمكان توجيهها لحظيا، ولتحطمت المركبة على سطح المريخ قبل أن تصل الرسالة لها من الأرض.

الأمر الجميل في الموضوع أنه حينما كنت أتابع نزول المركبة على المريخ كانت الرسائل تصل إلى ناسا تقول أن المركبة وصلت إلى الغلاف الجوي، ليصرخ العلماء من الفرحة، ثم تأتي رسالة لتقول أن المظلة انفتحت ليصرخ العلماء من الفرحة مرة أخرى، ثم تأتي رسالة أن الغطاء انفتح، ثم أن النفاث انطلق ثم الكرين بعد ذلك، وهكذا، وفي كل مرحلة يفرح العلماء، وبعدها تشتد الأعصاب مرة أخرى انتظارا للمرحلة التي تليها، ولكن توقف لحظة للتفكير في ما سأقوله الآن: حينما وصلت أول رسالة من المركبة في أنها دخلت إلى أجواء المريخ، أين كانت المركبة في لحظة وصول الرسالة؟ هي في الحقيقة وصلت إلى السطح وبقيت عليه لمدة سبع دقائق، ولكن الرسالة تأخرت 14 دقيقة إلى أن وصلت، وقد تكون المركبة سليمة أو محطمة، ولا سبيل لمعرفة حال المركبة لحظيا نهائيا، لا توجد وسيلة علمية للمعرفة، كل ما نعرفه عن المركبة هو قد حدث مسبقا وأصبح ماضي المركبة. ولكننا نتعامل معه وكأنه يحدث الآن. إذا لم يقف شعر يديك بعد، أعد سماع هذه الفقرة مرة أخرى وحاول أن تركز.

رحلات سابقة وأهداف الرحلة

ربما تعرف أن الرحلة هذه لم تكن هي الأولى في تاريخ ناسا، بل كانت هناك عدة رحلات قبلها، فمثلا ذكرت  قبل قليل أن القمر الصناعي مارس الريكوناسانس أوربيتور (Mars Reconnaissance Orbiter) التقط صورا للمظلة المنفتحة أثناء نزول المركبة، إذن فذلك يعني أن ناسا بعثت قمرا صناعيا إلى المريخ قبل ذلك، وكان ذلك في سنة 2006، وقبل سفر المركبة الكيريوسيتي سافرت وحطت المركبتين أوبرتيونيتي (opportunity) وسبيريت (Spirit) على سطح المريخ، أنزلت كلا المركبتين بطرق هندسية رائعة في شروق سنة 2004 (ولكن الكيوريوسيتي تفوقت عليهما بمستوى التعقيد الهندسي).

وهناك عدة رحلات أخرى إلى المريخ، تخيل أن هذه الرحلات ترجع إلى سنة 1960، وللعلم أن هذه الرحلات لم تبدأ بها الولايات المتحدة الأمريكية، بل أول من أرسل مركبات فضائية إلى المريخ كان الاتحاد السوفيتي، وإن لم تتم لأي من رحلاتها النجاح في الستينات، الاتحاد السوفيتي حاول في عدة مرات الوصول للمريخ وذلك منذ 1960 إلى 1970، ولكنه إما فشلت المراكب في الإنطلاق من الأرض أو أنها بعد أن انطلقت فقدت الاتصالات مع الأرض.

أما الولايات المتحدة فأول مركبتين أطلقتهما للمريخ كانتا المارينر 3 و 4 في سنة 1964، فشلت المارينار 3 ونجحت 4 في المرور بجانب المريخ والتقاط بعض الصور، بعدها أرسلت مارينار 6 و7 ، وبعد ذلك أطلقت المارينر 8 سنة 1971، ولكنها لم تفلح في الإنطلاق من الأرض، فأطلق بعدها الاتحاد السوفيتي كوزموس 419، ولكنه لم ينجح في الانطلاق، بعدها أطلق الاتحاد السوفيتي مركبتين، ووفق في إيصالهما للمريخ، ولكن تعطل الكمبيوتر على متن المركبة الأولى، إلا أن النجاح كان من حليف الاتحاد السوفيتي في إسقاطه لأول جسم متعطل صنع على يد البشر في المريخ، وبعدها بشهر نزلت المركبة الأخرى نزولا هادئا، ولكن الاتصال انقطع بعد 14.5 ثانية بعد الهبوط، إذن السبق في النزول (أو  السقوط) على المريخ كان للاتحاد السوفيتي، وكان ذلك في نهاية 1971، وفي سنة 1974 أطلق الاتحاد السوفيتي 4 مراكب فضائية أخرى للمريخ.

الحديث في هذه المركبات متشابك جدا، لم أضبطه بالكامل لكثرة المحاولات بين الدولتين، ولكن لك أن تتخيل ان مثل هذه الأمور حدثت قبل أن أولد، وقبل أن يولد الكثير من المستمعين، فإذا كانت هذه الدول قادرة على صنع مراكب فضائية تستطيع الوصول إلى المريخ والطيران بجانبه وإرسال الصور والمعلومات قبل خمسين عاما، فكيف بها الآن؟

أما أهم المركبات التي تم إنزالها على سطح المريخ والاستفادة من الصور التي أرسلتها فهي الفايكينج 1 و2 (للولايات المتحدة الأمريكية)، كلاهما أهبط بسلام على سطح المريخ، ارسلت المركبتين سنة 1975، الأولى في شهر 8 والثانية في شهر 9 (الكثير من المراكب السابقة وتشتمل على الفايكنج ضربت عصفورين بحجر، حيث أنها أرسلت وهي تحتوي على مسبار قمر صناعي يدور في فلك المريخ، ومسبار هبوط ينزل على السطح)، فصورت المركبتين صورا رائعة للكوكب الأحمر وأرسلت معلومات عن الأجواء، وكانت واحدة من أهداف تلك المركبتين هي البحث عن الحياة على ذلك الكوكب، ولكن لم توفق أي منهما في اكتشاف حياة (ولو أن هناك دراسة جديدة استخدمت معلومات أتت من الفايكينج تقول أن هناك دلائل على وجود حياة ميكروبية، نشرت هذه الدراسة سنة 2012، ومن غير الواضح مدى صحتها)

بعد ذلك وفي سنة 1995 أطلقت الولايات المتحدة مركبة الباث فايندر، وأنزلت على المريخ الروفر الملقب بالسوجورنر، لاحظ أن كلا من الفايكنج 1 و 2 لم تكن لهم عجلات للتحرك، بينما كانت للسوجورنر 6 عجلات، فكان بالإمكان تحريك الروفر لأماكن متعددة، ويزن هذا الروفر 10.5 كيلو غراما، كان الهدف من هذه الرحلة هو برهنة إمكانيات تكنولوجيا الهبوط، وكذلك لأخذ قياسات مختلفة للمريخ. وأرسلت بعدها الروفرين أوبرتيونيتي وسبيريت، وهبط كل منهما بسلام على المريخ، وصَوّرا صُوراً رائعة للسطح بالإضافة لأخذهما لقراءات مختلفة، كان من المفروض أن تنتهي مهام هذين الروفرين بعد سنتين من النزول، ولكن بقيت الأوبرتيونيتي تعمل إلى يومنا هذا منذ سنة 2004، حيث فاق عمرها 35 مرة توقعات ناسا.

عدد الرحلات إلى المريخ كلها هي 43 رحلة تتوزع بين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا حاليا، واوربا، واليابان، أما النجاح كان حليف أقل من الثلث لهذه المهمات، وكذلك بالنسبة للهبوط على سطح المريخ، وهنا أتكلم عن الهبوط الصحيح للبدأ بالمهمة – وليس إسقاط مراكب – كان من حليف الولايات المتحدة لوحدها، حيث نجحت في إنزال 6 مركبات ووكانت الكيوريوسيتي السابعة.

أهداف رحلة المركبة كيوريوستي

لكل رحلة من تلك الرحلات أهداف، فبعض الأهداف يتلخص في دراسة الأجواء والتربة والمجال المغناطيسي، إما من خلال قراءات مختلفة من مختبرات على متن تلك المراكب أو من خلال أجهزة استشعار حساسة أو من خلال التصوير بالكاميرات. ولكن  أهم هدف لمثل هذه الرحلات هو البحث عن الحياة على المريخ، إما على شكل ميكروبات حية أو عن طريق دلائل تشير لوجود حياة قديمة قد انتهت.

الكثير من القصص القديمة كانت تشير لوجود حياة على المريخ، بعض الروائيين كان يصور الحياة على المريخ على أنها حياة ذكية توازي بمستواها الحياة على الأرض، حتى أن أب الخيال العلمي أيتش جي وليلز (H. G. Wells) كتب قصته الشهيرة والتي ترجمت لفيلم مرتين وهي قصة حرب العوالم (War of the Worlds)، ربما شاهدت الفيلم الأخير (إخراج ستيفن سبيلبيرج)، والذي فيه يأتي فضائيين للأرض ليستعبدوا أهلها، في الفيلم ترى الفضائيين على مراكب ثلاثية القوائم، تمشي على الأرض وتصطاد الناس وتلقيهم بشباك معلقة على المراكب، ثم تمتص دماءهم لري الأرض، وذلك لزراعة الأرض بمواد يستفيد منها الفضائيين، الفيلم يختلف عن القصة في الكثير من النواحي، ولكن الاختلاف المتعلق بموضوعنا هو أن أيتش جي وليز أتى بالفضائيين من المريخ، بينما لا يعلم من أين أتى الفضائيين في الفيلم الذي أخرجه ستيفن سبيلبيرج، والطريقة التي ذكرها ويلز في إرسال المريخيين إلى الأرض كانت عن طريق براميل تقذف من المريخ إلى الأرض فتسقط وبها الفضائيين، ثم يبدأ المريخيون بالتدمير.

لماذا يا ترى ألغيت فكرة المريخيين من الفيلم؟ لأنه وبعد البعثات الفضائية المختلفة اكتشف العلماء أنه لا وجود لحياة هناك ناهيك عن وجود حياة ذكية، فلا يعقل أن يصور المخرج مشاهد فيها فضائيين أتو من المريخ بعد كل هذه الاكتشافات ومعرفة الناس فيها. القصة الروائية كتبت في سنة 1898، أكثر من مئة سنة سابقا، وفي تلك الأيام لم تكن هناك معلومات كافية وافرة عن المريخ، فكان خيال القصصي يبيح له مساحة أكبر للحركة.

إذن، العلماء يبحثون عن الحياة أو عن دلائل تشير إلى وجود حياة سابقة، في الحقيقة هم لا يتوقعون أن تكون هناك حياة على سطح المريخ حاليا، خصوصا أن الظروف لا تسمح لأن تكون هناك حياة بيولوجية على الأقل، لربما تكتشف حياة ميكروبية ويفاجأ بها العلماء، ولكن الظن الغالب أنه لن تكون هناك حياة يمكن اكتشافها حاليا، ما يبحث عنه العلماء هو دلائل على وجود حياة سابقة، أو دلائل على إمكانية تكون حياة على المريخ في السابق.

بحسب معرفتنا الحالية، فنحن لا نعرف عن حياة أخرى سوى تلك التي موجودة على الأرض، فنحن لدينا مثالا واحدا على الحياة، الحياة التي نعرفها كلها بيولوجية، والحياة البيولوجية تحتاج لعوامل وظروف معينة لنشوئها، وهناك دلائل مختلفة تدل على إمكانية هذا النشوء، والعلماء يعملون كما يعمل المحقق في جريمة، فإذا هو لم ير الجريمة عيانا إذن فهو يحتاج لأن يبحث عن الدلائل، فتارة تجده يبحث عن بصمات السارق على الباب، وتارة عن ثقوب الطلق الناري ليعرف جهة أطلق المجرم النار على المقتول، أو عن أعواد الثقاب التي حرقت المبنى، وفي العصر الحديث عن الدي إن إي في لعاب المتهم، وهكذا، كل هذه مؤشرات تدل على أحداث الجريمة والمجرم، هكذا يفعل العلماءفي المريخ فهم يبحثون عن دلائل ومؤشرات على الحياة، والبحث هو فقط عن النوع الواحد الذي يعرفه العلماء، وهو الحياة البيولوجية.

ما هي بعض هذه الدلائل التي يبحث عنها العلماء على المريخ؟

هناك الكربونات المعقدة والمهمة للحياة على الأرض، وهناك البحث عن الماء، أضف لذلك إذا البحث عن دلائل لحياة ميكروبية فقد تكون هناك قنوات صغيرة متموجة في الصخور كونتها تلك الميكروبات، ففي كتاب “الهبوط على المريخ 2012: بداخل مهمة ناسا كيوريوسيتي” (Mars Landing 2012: Inside the NASA Curiosity Mission)، يشرح جون جروتزينجر (John Grotzinger)، أحد كبار علماء ناسا لمهمة كيوريوسيتي: “أن الأشكال المتعرجة الجميلة كانت أحافير للستروماتولايت (Stromatolite)، في الغالب هي أول أشكال الحياة على الأرض، والتي تستطيع أن تترك أحفورة فعلية، الستروماتولايت كانت مستعمرات من ميكروبات بخلايا واحدة، وهي التي شيدت هياكل كبيرة وصغيرة عن طريق تجميع وتحريك الرمل والرواسب المختلفة… ولو أن الكيوريوسيتي تكتشف أي شكل مريخي مثل هذه، ستبدأ ناسا بتوجيها للبدأ باختبارات مركزة.”

هناك أيضا الموقع الذي هبطت فيه المركبة كيوريوسيتي، وهو يسمى بفوهة غيل (Gale Crater) (أتذكر قرأت أن إرسال المركبة من الأرض إلى المريخ وإنزال الكيوريوسيتي على المريخ كان بمثابة ضرب كرة الجولف من لوس آنلجيس في غرب الولايات المتحدة إلى استكتلاندا، وإدخال الكرة في الحفرة بضربة واحدة)، العلماء أرسلوا الروفر لهذه الفوهة لاعتقادهم بأهميتها، فبوسط هذه الفوهة هناك جبل شاهق، يرتفع عن الأرض بقدر 18,000 قدم (أو 5.5 كليومترا)، وعلى هذا الجبل هناك طبقات من الصخور المكشوفة، فيمكن للمركبة أن تتفحص هذه الأتربة والصخور لمعرفة ماضي الكوكب، وخصوصا أن الفوهة عمرها 3.5-3.8 مليار سنة، وأن الجبل تكون على مدى 2 مليار سنة، من هذه الطبقات يمكن معرفة ما إذا كان الماء متوفرا، ويمكن المعرفة بوجود زلازل قديمة، وكذلك قوة المجال المغناطيسي للمريخ في الماضي، والمواد العضوية وتفاعلاتها، والأمنية الكبرى هو أن يجد العلماء آثار للقنوات الميكروبية تدل مباشرة على وجود حياة سابقة على المريخ.

الحلقة القادمة من السايوير بودكاست سأتكلم عن المختبرات العشر الموجودة على متن الكيريوستي، وكذلك سأتحدث عن الطاقة التي تعتمد عليها المركبة، فهي لا تعتمد على الخلايا الضوئية كسابقاتها، ومعلومات غريبة عن المركبة.

عن محمد قاسم

د. محمد قاسم هو أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية في الكويت، يحاضر في قسم الهندسة الإلكترونية، يعد ويقدم السايوير بودكاست (برنامج علمي تكنولوجي صوتي)، وكذلك يكتب في موقع الجزيرة (علوم)، ويشجع ويحث على العلم بشغف كبير.

شاهد أيضاً

فيسبوك تغلق روبوتين بعد أن طورا لغتهما الخاصة في التفاوض

هكذا انتشر خبر الذكاء الاصطناعي وأصبح أكثر أخبار التقنية تداولا. انتشر بعنوان مثير جدا، “فيسبوك …

3 تعليقات

  1. حلقة شيقة ومميزة كعادتك دكتور
    ما زلت اذكر تغريداتك في ذاك اليوم عيشتنا جو صراحة
    اشتقنا لحلقات الخيال العلمي والبحث في اسرار الكون
    اتمنى تنزل حلقة باثارة حلقة الاكوان المتوازية
    لك جزيل الشكر استاذي

  2. الف شكر و اتشرف اني اكون احد متابعينك. معجب بدرجة الإتقان العالي للبودكاست و المدونة.
    جزاك الله خير على الجهد.

    عبدالعزيز.

  3. THANK YOU VERY MUCH REALLY YOU MAKE DIFFERENCE..

اترك رد