الهيجز بوزون (Higgs Boson)

speaker_icondisk
ipod

مقدمة

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=0CugLD9HF94]

التصفيق الحار الذي سمعته قبل قليل كان ابتهاجا لاكتشاف الهيجز بوزون (Higgs Boson)، حيث أعلن العلماء في سيرن (CERN) عن اكتشافه بعد تجارب طويلة، أريد أن أكون أكثر دقة، وهو أن العلماء اكتشفوا بوزون أو واحد من أنواع الهيجز بوزون، والآن مهمة العلماء التدقيق في المعلومات التي لديهم لاكتشاف أي منها هو هذا البوزون، فيحتمل أن يكون هو الهيجز، والذي يعتبر مؤكدا إحصائيا وبدرجة عالية من الدقة ، ولكن التدقيق في النتيجة لمعرفة ما إذا كان الجسيم هو الهيجز أو أي نوع من الهيجز سيأخذ بعض الوقت، في هذه الحلقة القصيرة سأشرح فكرة مجال الهيجز والهيجز بوزون متوقفا عند نقاط في التاريخ بسرعة، وسأشرح فكرة الإحصاء، وكذلك أهمية هذا الاكتشاف.

مجال الهيجز والهيجز بوزون

ما هو مجال الهيجز وما هو الهيجز بوزون؟ ولماذا كل هذه الضجة حول هذا الاكتشاف؟ لنبدأ أولا بشرح فكرة مجال الهيجز ثم ننتقل للهيجز بوزون، مجال الهجيز كما في المجال الكهرومغناطيسي هو مجال يملأ الكون كله، فهو يتخلل كل شيء، هو يتخلل السماء والأرض وكذلك أنت، يسميه براين جرين في كتابه “نسيج اكون” (The Fabric of the Cosmos) بمحيط من مجال الهيجز،  كلمة محيط (وبالخصوص المحيط البحري) أتت لتقصد إحاطة الماء باليابسة، ولكن في هذه الحالة المجال يحيط ويتخلل كل شيء.

وحتى أمثل هذا المجال بطريقة يمكن تخيلها، وإن كانت الطريقة هي مجرد لإيصال الفكرة، أقارن مجال الهيجز بالمجال المغناطيسي، أحضر ورقة، وضع أسفلها مغناطيسا، ثم أنثر برادة حديدة على ورقة من الأعلى، ثم ذبذب الورقة، ستجد أن برادة الحديد تتشكل بحسب شكل المجال المغناطيسي، سترى خطوطا منحينة تخرج من القطب الشمالي للمغناطيس إلى القطب الجنوبي، قس على ذلك مجال الهيجز، الاختلاف في هذه الحالة مجال الهيجز غير منحني، إنما هو متساوي في الكون كله.

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=M9Gdm_OXKz4]

هذا المجال الهيجزي هو الذي يعطي كل الجسيمات كتلها وذلك بحسب درجة تفاعل الجسيم بالمجال، الإلكترون له كتلة، والكوارك له كتلة لأنهما يتفاعلان مع المجال، والفوتون ليست له كتلة لأنه لا يتأثر بالمجال، الجسيمات في الكون لها كتل مختلفة، والسبب في وجود هذه الكتل هو المجال، فحينما تتحرك هذه الجسيمات في مجال الهيجز فهو يقاومها بقدر معين، هذه المقاومة أو المضايقة هي التي نسميها نحن بالكتلة، ففي حالة الإلكترون نجد أن المضايقة صغيرة بالمقارنة مع البروتون (طبعا هنا البروتون يتكون من الكواركات)، وفي حالة الفوتونات فإن مجال الهيجز لا يتفاعل معها وبالتالي لا يعيقها نهائيا، ولذا فهو يتحرك بحرية، ولو أن مجال هيجز لم يكن موجودا لكانت كل الجسيمات لا كتلة لها، ولتطايرت في الفضاء كما لو تتطاير الفوتونات بلا أي معوق، ولو أن المجال قوته مضاعفة، لكانت الكتل مضاعفة بنفس القدر.

يمثل العلماء هذه الفكرة بممثل نجم في هوليوود مثل توم كروز مثلا، تخيل لو أن توم مر بداخل قاعة، وهذه القاعة كانت فارغة تماما من الناس، لمر بأريحية كبيرة خلالها، وتحرك فيها بسهولة، ولكن لو أن القاعة مليئة بالناس، لتكالبوا عليه أثناء مروره في القاعة، فتصبح حركته صعبة، فمقدار إعاقته تكون مقدار كتلته، ويضرب بعض العلماء مثالا آخر أيضا وهو عن السمك في البحر، اعتبر أن الأسماك هي الجسيمات، والماء الذي في البحر هو المجال الهيجزي، هناك أسماك تتحرك بانسيابية، وأخرى بصعوبة، الإعاقة بحسب انسيابية جسم السمكة.

بعد طرح المثالين السابقين، لابد من التوقف للتأكيد على أن المثالين غير دقيقين، لأني لم أجد أي تفسير يشرح سبب اختلاف الكتل، لاحظ مثلا أن الإلكترون والذي يعتبر بنفس حجم التوب كوارك (Quark) (وهو جسيم أولي)، ولكنهما يختلفان من حيث الكتلة بشكل شاسع، فالتوب كوارك كتلته أكبر من كتلة الإلكترون بقدر 350,000 مرة تقريبا، وهذا فرق شاسع وكلاهما يتأثر بالمجال الهيجزي بطريقة مختلفة تماما رغم تساوي الأحجام، فلماذا تختلف كتلة الإلكترون عن كتلة التوب كوارك مثلا؟ والآن لابد أن يتغير السؤال عن الكتلة، من “لماذا تختلف كتل الجسيمات المختلفة؟” إلى سؤال آخر أكثر دقة وهو: “لماذا تتفاعل الجسيمات كل منهما بطريقة مختلفة مع مجال الهيجز؟”

هناك أيضا اختلاف آخر، وهو أنه حينما نتكلم عن الإعاقة أو مقاومة المجال الهيجزي فالمقصود هو أن المجال يقاوم التعجل، فلاحظ مثلا أنه حينما تكون جالسا في سيارتك، وتضغط على دواسة البنزين لتتعجل بالسيارة، بماذا تحس؟ حينما تندفع السيارة إلى الأمام سترى جسدك يتراجع للخلف، وبعد أن تصبح سرعة السيارة مستقرة ستعود لوضعك الطبيعي، في هذه الحالة مجال الهيجز أثر على جسدك أثناء التعجل وليس أثناء السرعة الثابتة، هناك فروقات أخرى، ولكن لا مجال لذكرها هنا.

نشأة مجال الهيجز

الكون في بدايته كان حارا جدا، وذلك مباشرة بعد الإنفجار العظيم، فقارن درجة الحرارة في بداية إنطلاق الكون مع درجة حرارة لب الشمس، حينما كانت الحرارة 10^32، وهذه تعادل 1,000,000,000,000,000,000,000,000، مليون مليار مليار مرة ضعف درجة حرارة لب الشمس، كان فيها هذه المجال – لنقل – يغلي، ولم يكن في حالة استقرار، وكان المتوسط الحسابي لقيمة هذا المجال هو صفر، وبعدم وجود هذا الاستقرار كانت كل الجسيمات بلا كتلة، فلم يكن للمجال القدرة على إعاقة الجسيمات، في هذه الحالة تكون كل هذه الجسيمات حالها حال الضوء الذي لا يزال بلا كتلة، وبعد أن بدأت درجة حرارة الكون بالانخفاض حتى اصحبت تعادل مليون مليار درجة حرارة لب الشمس استقر أو تكثف المجال الهيجزي كما يتكثف الماء بعد انخفاض درجة حرارته بعد أن كان يغلي عند درجة الحرارة 100 سليزية، يقول العلماء انكسر التناظر بين الجسيمات المختلفة، وبعد أن كانت كتل كل الجسيمات صفرا أصبح لها كتل مختلفة، وكانت هذه اللحظة قريبة جدا من بداية تكون الكون.

اليوم درجة حرارة الكون هي قريبة من الصفر المطلق، حيث أنها تصل إلى 2.7 درجة فوق الصفر المطلق، الكون أصبح باردا جدا، والمجال مستقر. وبسبب استقرار مجال الهيجر بعد أن انخفضت الحرارة في بداية تكون الكون إلى يومنا هذا، وهو السبب في إعطاء المواد كتلها، لولا كتلها المختلفة لما تكونت الجسيمات الخام، ولا المواد الموجودة في الجدول الدوري بكتلها المختلفة، ولما تكونت الغازات، ولا المجرات، ولما تكونت النجوم، ولا الكواكب، ولا حتى كوكب الأرض، ولا حتى أنا وأنت، ولا حتى هذا البودكاست.

اكتشاف الهيجز

الآن، نأتي للهيجر بوزون بعد الحديث عن مجال الهيجز، الهيجز بوزون هو جسيم، وينتج عن مجال الهيجز، وهناك عدة طرق لإنتاج الهيجز بوزون، ولكن الطريقة التي اتبعتها السيرن في المصادم الهدروني الكبير هو رطم بروتونات مع بعضها بقوة هائلة بحيث تنتج جسيمات الهيجز بوزون، عن طريق الصدم العنيف تتكون قوة كافية بحيث يثير المجال الهيجزي، فينطلق منه بوزون، لاحظ جيدا الفرق، هناك من يطلق عليه بمجال الهيجز، ووبإثارة مجال الهيجز أو تهييجه ينطلق جسيم الهيجز، والمعبر عنه بالهيجز بوزون.

المصادم الهدروني الكبير عبارة عن معجل للجسيمات على شكل دائرة كبيرة محيطها 27 كليومترا، ويتواجد تحت الأرض بعمق يصل إلى 175 مترا (أحس حينما أتكلم عن وجود المصادم تحت الأرض وكأنما أتكلم عن المقر الرئيسي لـ Men in Black، تحت الأرض، وكأنما المصادم خيال وليس حقيقة). يقوم العلماء بإطلاق أشعة من البروتونات في اتجاهين مضادين، وبقوة المغناطيسات الهائلة تُلوى الإشاعات مع إبقائها حادة ضيقة، لتدور بداخل الدائرة، وكذلك يتم تسريع كل من الإشعاعين كل في اتجاهه، فيدور واحد من الإشاعات مع عقارب الساعة والآخر بعكس عقارب الساعة عدة دورات، وفي كل دورة يتفادى كل من الإشعاعين بعضهما، إلى أن يصل الإشعاعين إلى سرعات قريبة جدا جدا من سرعة الضوء (لدرجة أن الضوء يسبقها فقط بقدر 3 أمتار في الثانية)، فيوجههما العلماء في وجهة تصادمية، فيصطدمان ببعضهما بقوة مريعة.

في اللحظة التي يصطدم الإشعاعان ببعضهما تتحطم هذه الجسيمات الصغيرة وتتحول إلى أشلاء وشضايا، وتقذف في كل الاتجاهات، لابد أن أفصل أكثر في هذه الفكرة: حينما تتصادم البروتونات مع بعضها فليس بالضرورة أن تتحطم بمعنى أن تنفصل مكوناتها الداخلية، وتنطلق، فهي ليست مثل السيارة التي حينما تصطدم بسيارة أخرى تتطاير من كل منهما شضايا الزجاج وتنخلع منهما العجلات وأشلاء من المحرك، الوضع يختلف، فبعد التصادم وبسبب الطاقة الكبيرة تختفي مكونات الجسيمات، وتخرج مكونات جديدة بحسب الطاقة المتوفرة، وعملية الاختفاء والظهور تعتمد على قانون آينشتين E = mc^2 الشهير، فتظهر جسيمات جديدة، إما أن تكون معروفة مسبقا أو غير معروفة، ولذلك فلو طبق هذا المثال على السيارتين، لرأيت بعد تصادمهما عجلة لإحدى السيارتين، ودعامة للسيارة الثانية، ومحرك لسيارة لم تكن في الحادث، ولم تر مثلها من قبل، إذن، ستنطلق من التصادمات جسيمات جديدة، وتسير بعض هذه الجسيمات لتكوّن مسارات مستقيمة، وأخرى منحنية، وتشكل بعضها أشكالا حلزونيا جميلة، وتقوم بعض الجسيمات بالتحلل مباشرة بعد تكونها، لأنها كانت غير مستقرة، لتكون جسيماتا جديدة أكثر استقرارا.

وحتى تتكون هذه الجسيمات لابد لأن تكون طاقة تلك الصدمات مقدرة بدقة، وإلا لا يمكن إثارة المجال بالطريقة الصحيحة، وبعد عدة محاولات في المصادم الهدروني الكبير اكتشف العلماء الطاقة المناسبة لإنتاج الهيجز بوزون، وهي 125 جيجا إلكترون فولت تقريبا (وسأتحدث في حلقة أخرى بالتفصيل عن هذه الوحدة)، ولكن لا يلبث أن يتكون جسيم الهيجز حتى يتحلل بسرعة مذهلة في أقل من عشرة آلاف مليار مليار جزء من الثانية، ولو أن العلماء بمقدرتهم المسك بهذا الجسيم لفترة أطول لدراسته لكان بالإمكان إعطاء نتائج أكثر دقة، ولذا حتى يعرف العلماء ما إذا ظهر جسيم الهيجز يقومون بدراسة نتائج تحلل الهيجز إلى جسيمات أكثر استقرارا، والتي يمكن رؤيتها لفترة أطول من الهيجز بوزون ذاته، ولأن العملية هذه غير دقيقة، يقوم العلماء بتكرار التجربة مليارات المرات، وبعدها يبدأ العمل الإحصائي.

 اكتشف العلماء الهيجز بوزون بعمل إحصائيات، فليس هناك تأكيد مطلق أو مئة بالمئة بوجوده، المصطلح الذي يستخدمه العلماء في هذه الحالة هو الأهمية أو الدلالة الإحصائية (Statistical Significance)، وحينما يقال أن للإحصاء دلالة كافية فذلك يعني أنه لا يمكن أن يكون الحدث عشوائيا أو صدفة، وقد عبر العلماء عن اكتشافهم للهيجز بوزون بدلالة يقال لها 4.9 سيجما وفي حالة أخرى 5 سيجما، الدلالتين كانتا لتجربتين مختلفتين، وفي كل تجربة يتم إحصاء المليارات من المعلومات المستخلصة من النتائج، ماذا تعني كل من السجمتين؟ ماذا يعني أن تكون النتيجة 5 سيجما؟ ذلك يعني أن احتمال اكتشاف الهيجز بوزون هو %99.9999 تقريبا، وذلك يعني أن يكون قياس وجود الهيجز بوزون خاطئا هو ضئيل جدا جدا جدا إلى درجة أنه يمكن القول أن الاكتشاف صحيح.

كيف يمكن أن نصدق هذه الإحصائيات؟ أليس من الممكن أن يكون هناك خطأ فيها؟ نعم من الممكن، ولكن بسبب ضآلة الخطأ إلى نسبة ضئيلة جدا يتقبل العلماء هذه النتيجة على أنها دقيقة، خذ على سبيل المثال لو أن لديك كيس مليئ بالكرات، أنت لا تعرف ألوان الكرات في الكيس، ولا تستطيع أن ترى ما بداخل الكيس، ولكن يسمح لك أن تخرج كرة كرة من الكيس لترى ألونها، فتخرج الكرة الأولى فتجد أنها حمراء، والثانية أيضا حمراء، وهكذا إلى الكرة العاشرة، وفي المرة الحادية عشرة أخرجت كرة زرقاء، قد يبدو لك أن هناك كرة زرقاء لكل 10 كرات حمراء، ولكن ليس لديك الدليل الكافي أو دلالة إحصائية للقول بأن هذه النسبة (1 زرقاء إلى 10 حمراء) بين الكرات، فتقوم بإعادة التجربة عدة مرات، وقد تجد في المرة الثانية أن الكرة الزرقاء خرجت بعد إخراج 9 كرات حمراء أو ثمانية، وبعد عملية إحصاءات طويلة جدا وجدت أن لكل 9 كرات هناك كرة زرقاء واحدة، فلو أن الكيس به 9000 كرة حمراء، فتتوقع أن تكون هناك 1000 كرة زرقاء، السؤال الذي يسأله العلماء الآن، ما هي درجة تأكدك من صحة هذه النتيجة، وخصوصا أنك لم تخرج الكرات كلها للتأكد مئة بالمئة، هنا تقوم بعمليات إحصائية رياضية دقيقة لتقول أن النتيجة صحيحة بنسبة  %99.9999 أو 5 سيجما، أو أن احتمال أن تكون التجربة خاطئة هو ضئيل جدا جدا.

بداية الفكرة

القصة فيها التواءات ومشاكل قد تظهر لاحقا مع تقديم جوائز النوبل، ففكرة الهجيز بوزون ارتبطت بمجموعة من العلماء، وإن كانت التسمية ترجع لشخص واحد فقط، وهو بيتر هيجز (Peter Higgs)، إلا أن الكثير من العلماء يشاركونه في نشر أوراق علمية عن موضوع الهيجز، وإن كانت هناك خصوصية لبيتر هيجز جعلته متميزا عن الباقين.

في السابق وقبل وجود الإنترنت حينما ينشر العالم ورقته العلمية، فهو لا يدري أن كانت هناك ورقة علمية أخرى نشرت في توقيت مقارب، الآن العلماء يستطيعون البحث في الإنترنت عن الأوراق العلمية أولا بأول (إلى حد ما)، وهكذا بالنسبة لبيتر هيجز، نشرت له ورقة علمية في سنة 1964 عن الهيجز بوزون، واعتمد على فكرة نشرت في مقالة أخرى سنة 1962 للعالم فيليب وارين آندرسون (Phillip Warren Anderson) الحائز على جائزة النوبل حاليا، نشر هذه الفكرة في شهر أكتوبر، ولكن لم يكن يعلم أن  هناك ورقة نشرت في شهر أغسطس (أي قبل ورقته بشهرين) عن طريق العالمين فرانسوا أونجلير (François Englert) وروبيرت بروات (Robert Brout)، وكذلك نشرت ورقة بعد ورقة هيجز في الشهر التالي عن طريق ثلاث علماء آخرين وهم جيرالد جورالنيك (Gerald Guralnik)، وكارل هيجن (Carl Hagen)، وتوم كيبل (Tom Kibble). كل تلك الأوراق أتت بنفس النتيجة تقريبا، واشتركت كلها بما يسمى اليوم بالآلية الهيجزية، ولكن يبدو أن بيتر هيجز هو الذي تنبأ بجسيم الهيجز بالإضافة للآلية الهيجزية.

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=4Pi1EE8nutc]

يذكر بيتر هيجز في مقابلته السابقة أنه حينما كتب الورقة أول مرة، كانت مكونة من صفحة واحدة بحجم A4، وأرسلها لمجلة فيزيكس ليترز (Physics Letters)، فرفضت الورقة (واللطيف أن محررها حاليا يعمل في السيرن “CERN” حيث اكتشف الجسيم)، فاعتقد بيتر هيجز أن الورقة قد تكون قصيرة جدا، وأنه يحتاج لإدراج معلومات إضافية، فحاول بالتفكر في النتائج المادية لنظريته، فأعاد صياغة الورقة لتشتمل على المخرجات التي من الممكن أن تتكون من هذه النظرية، وهنا ذكر الجسيم الذي لقب لاحقا بالهيجز.

ملاحظة <وكذلك يذكر البروفيسور جيرالد جروالنيك أن حينما كتب الورقة قال له هايزنبيرج أن نتائجه خاطئة، بالتأكيد لا أحد يود أن يخبره العالم الهائل هايزنبيرج أي شيء سلبي عن بحثه! ومن ضمن الذين كانوا يعتقدون أن لا وجود للهيجز بوزون هو العالم ستيفن هوكنج، وقد راهن على 100 دولار أن الجسيم الجديد لن يكتشف، ورغم سعادته بالخبر إلا أنه حزين لأنه فقط 100 دولار، قال ذلك مازحا في مقابلة تلفزيونية معه. أضف لذلك أنني كنت أقرأ كتاب العالم ميشيوا كاكو هايبر سبيس: الملحمة العلمية خلال الأكوان المتوازية، إلتواءات زمنية، والبعد العاشر (Hyperspcace: A Scientific Odyssey Through Parallel Universes, Time Warps, and the Tenth Dimention)، كان يتكلم عن النموذج المعياري ويشرح كيف أنه غير متكامل وأنه قبيح ووصفه وكأنه تهجين بين بغل وفيل وحوت، وذكر عدة نقاط علمية يستشهد بها للدلالة على قباحة النظرية، وكان واحدا من هذه النقاط هو وجود: “العديد من جسيمات الهيجز الغريبة والمهمة لتلفيق الكتل والثوابت التي تصف الجسيمات،” إذن ميشو كاكو كان مخطئا حينما شمل جسيم الهيجز ليصف النموذج المعياري بالقباحة، لأن الهيجز بوزون تم اكتشافه، وها هو يدعم النموذج أكثر>

وجود ثلاثة أوراق بستة مؤلفين (توفي واحد منهم، وبقي 5 مؤلفين) وكذلك المكتشفين التجريبيين للهيجز بوزون سيكون عبئا على لجنة جائزة النوبل، فالجائزة لا تعطى إلا لثلاثة أشخاص كحد أقصى، وصحيح أن الجسيم سمي بإسم هيجز، ولكن باقي العلماء لهم حق في الجائزة بقدر بيتر هيجز، فكيف سيتم اختيار الفائزين؟ لا أدري، ولكن بالتأكيد ستكون مهمة صعبة جدا.

حينما أعلن العلماء عن اكتشاف الهيجز بوزون كان بيتر هيجز حاضرا في القاعة، وحينما صفق الحاضرين بكى، ومسح دموعه، دموع الفرحة هذه ربما كانت أحد أسبابها هو عدم توقعه أن يكتشف العلماء الهيجز بوزون تجريبيا خلال حياته، فصحيح أن الاكتشاف تم بعد 48 سنة، ولكن ذلك أفضل بكثير من أن لا يكتشف الهيجز أبدا، وبذلك تصبح النظرية خاطئة، ما تبقى على إتمام الفرحة هو أن يبقى هيجز وباقي العلماء على قيد الحياة إلى أن يتسلموا جائزة النوبل.

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=4Pi1EE8nutc]

أهمية الفكرة

“ما هي التطورات التكنولوجية التي من الممكن أن نراها تنبثق من هذا (الاكتشاف)، ماذا سيعني بالنسبة لقرننا؟” وسأجيب كما أجاب العالم بيتر هيجز بنفسه حينما سئل هذا السؤال في مقابلة على الديلي تليغراف (Daily Telegraph).

بيتر هيجز: “ليس لدي أدنى فكرة… ما أستطيع قوله هو أنه سيكون من الصعب لأي شخص أن تكون لديه فكرة، والسبب هو أن الاكتشاف لهذا الجسيم هو الاعتراف بـ ما يتحلل له، فهو يتواجد لفترة قصيرة جدا، تقريبا مليون مليون مليون مليون جزء من الثانية، لا أدري كيف أستطيع أن أطبق ذلك في شيء مفيد، إنه بدرجة عالية من الصعوبة أن نستفيد من جسيمات (أخرى) لها عمر أطول قبل أن تتحلل، بعض تلك التي لها عمر يقارب مليون جزء من الثانية تستخدم في التطبيقات الطبية… كيف يمكن لك أن تحصل على تطبيقات لشيء مثل هذا والذي يعيش لمدة قصيرة جدا، ليس لدي أدنى فكرة.”

فعلا، هذا هو الجواب، لا أحد يعلم، ولكن من المؤكد أن المستقبل يختلف اختلافا شاسعا، فلم نكن نعلم أبدا أن من معرفة الجسيمات الصغيرة جدا أننا سنصنع كمبيوترات تعتمد على هذه النظريات والاكتشافات، ولم نكن نعلم أن الأجهزة الطبية التي تكشف عن أحشاء المريض من غير أن تلمس شعره في جسده ستأتي من اكتشافات في المجال الكهرومغناطيسي، مع تطور الإمكانات، ومع تطور العلم سنتمكن من الاستفادة من هذا الجسيم أو من المجال الهيجزي، أما حاليا، فلنستمتع بمعرفتنا لنسيج الكون، ولتشعر الدول الأوربية بنشوة النجاح التي حققته.

عند هذه النقطة أنتهي في الحلقة، ولكن أود أن أذكر ثلاث نقاط سريعة، أولا، أنني في هذه الحلقة ظلمت النموذج المعياري (Standard Model) بعدم شرحي له، حيث أن له علاقة وطيدة بالموضوع، وباكتشاف الهيجز تكتمل الصورة في النموذج المعياري (وإن كان النموذج المعياري بحد ذاته لا يقدم صورة كاملة عن الكون)، ولكن سأدعه لحلقة قادمة، حتى أستطيع التفصيل فيه أكثر، ثانيا، هناك جانب مهم جدا، وهو الجانب الأمريكي في الموضوع أو وضع الجانب الأمريكي من الموضوع، حيث أن العلماء في الولايات المتحدة على قدر سعادتهم بنتائج التجربة، إلا أنهم غيورين جدا، وحزينين جدا أن السبق لم يكن لهم، كان بإمكانهم أن يكونوا هم المعلنون عن النتائج هذه من على أرضهم، ولكن السياسية هي السبب عدم تمكنهم من إجراء التجارب، وسأترك هذا الموضوع أيضا للمستقبل، حيث سأتحدث عن الوضوع الأمريكي في السباق العلمي، وربما سأشمل في البودكاست الوضع العربي، ثالثا، وهو أن ما قلته هو دقيق على قدر المعلومات المتوفرة لدي وعلى قدر فهمي للموضوع الجديد، ولكن أترك لنفسي فسحة للخطأ كما عودتكم في باقي الحلقات، وإذا ما اتضح أن هناك معلومات تصحح من الأخطاء سأقوم بذكرها مباشرة.

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=QG8g5JW64BA&feature=player_embedded]

عن محمد قاسم

د. محمد قاسم هو أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية في الكويت، يحاضر في قسم الهندسة الإلكترونية، يعد ويقدم السايوير بودكاست (برنامج علمي تكنولوجي صوتي)، وكذلك يكتب في موقع الجزيرة (علوم)، ويشجع ويحث على العلم بشغف كبير.

شاهد أيضاً

العلماء يُطورون علاجا جديدا للغضاريف المُتضررة

يعاني الكثيرون من تضرر الغضاريف المفصلية في أجسامهم من جراء التعرض لبعض الإصابات والحوادث. الغضروف …

7 تعليقات

  1. موضوع جمييييييييييييييييييييييييييييل ورائع

  2. جازاك الله خيرا دكتورنا الحبيب

  3. اليس هذا المجال مشابها لما كان يعرف قديما بالاثير؟
    وما السبب الذي ادي بالعلماء لافتراض وجود هذا المجال الهيجزي ف الاصل؟

    • اعتقد ان جسيم هيجز هو الوجه الاخر لقصة لاثير
      فموجات الهيغز هو الاسم البديل المحتمل لموجات الاثير

اترك رد