الخيال، وأربعة أشياء لا يمكنك تخيلها مهما حاولت 2: العدم

speaker_icondisk
ipod

الخيال، وأربعة أشياء لا يمكنك تخيلها مهما حاولت 2: العدم

لغز: يحتاجه الأغنياء، ويملكه الفقراء، وأسوء من الشر، وأكبر من الله؟ ما هو. تستطيع أن توقف البودكاست قليلا لتفكر في الإجابة على السؤال. الإجابة على اللغز ربما تستطيع أن تعرفها من موضوع هذه الحلقة، وهو “لا شيء”. فلا شيء يحتاجه الغني، ولا شيء يملكه الفقير، ولا شيء أسوء من الشر، ولا شيء أكبر من الله.

في الحلقة السابقة بدأنا بالحديث عن أربعة أشياء لا يمكنك تخيلها، وقمت بتغطية شيئين من تلك الأشياء، وهما “ما بعد البعد الثالث” وأيضا “اللانهاية”، وكذلك قمت بشرح ما يعني أننا نتخيل الأشياء، بالإضافة لأهمية الخيال في حياتنا منذ الصغير، إن لم تستمع لتلك الحلقة فابدأ بها أولا ثم انتقل لهذه. في هذه الحلقة سنكمل المشوار، وسأتحدث عن العدم، وسأترك اجتماع النقيضين وكذلك حقيقة إمكانية تخيل أي شيء للحلقة القادمة.

مشكلتي الرئيسية مع حلقة العدم هذه هي أن موضوعها يتقاطع بشكل لا مفك منه مع الله، وبما أنني أحاول أن أتفادى المواضيع الحساسة سأحاول الابتعاد عن طرْق موضوع وجود الله وتدخله في خلق الكون. لأن التعرض لمثل هذا الموضوع وإن كان شيقا ومثيرا للعقل وجذابا للنفس إلا أنني أعلم أن البعض لا يتحمل الخوض فيه، والبعض فقط يريد أن تكون النتائج النهائية من نقاش الموضوع أن تؤدي إلى وجهة نظره أي كانت وجهة نظره، لذلك لن يتحمل تبادل الآراء بين الفلاسفة والعلماء والدين. وكذلك فإن الموضوع بدرجة من التعقيد أن البعض قد تحصل لديه لخبطة في المفاهيم. وحفاظا على خط البودكاست في عدم التدخل في المواضيع الدينية إلا بشيء ضحل وغير مختلف عليه أترك الجانب الإلهي بعيدا عن الموضوع، وأتحدث فقط عن المادة.

السؤال المهم

هل تتذكر السؤال الذي سألته من والدك في الصغر، “بابا من أين أتينا”؟ أتذكر أنني سألت هذا السؤال من أبي في الصغر ونحن في السيارة، أتذكر تماما أنني كنت جالسا في الخلف، وفي الوسط، كنت واضعا يداي على الكرسيين الأماميين متكئا عليها، فأجابني الوالد بإجابة بسيطة، ولكني لا أتذكر تفاصيلها، أتذكر السؤال جيدا ولكني لا أتذكر الإجابة، ولربما سمعت هذا السؤال أو سألته بنفسك وأنت في بداية عمرك، ربما كانت إجابة أبيك: “الله خلقنا” أو ربما كانت الإجابة: “لا أعلم”، أو حتى: “أصمت، ولا تجلس في الوسط، ودعني أركز على قيادة السيارة”. ولكن لو فكرنا قليلا وأعطينا السؤال حقه، فمن أين أتينا؟ من أين هذا الكون كله؟ إن أرجعنا شريط إلى الماضي وصغرنا الكون تدريجيا إلى أن وصلنا لنقطة الصفر، تلك النقطة التي بدأ منها الكون حيث لم يكون هناك كوننا هذا الذي نعيش فيه، فمن الناحية المادية البحتة لم يكن هناك شيء، كان هناك عدم. أو هل فعلا كان هناك عدم؟

قصة قصيرة “لقد عرفت العدم”

استلقى الفيلسوف الهائل فيصل العميري على فراشه وهو يفكر في سؤال لم يستطع الإجابة عليه طوال عمره، ولكنه أحس أنه سيكتشف الإجابة الآن، إنه السؤال القديم الذي لطالما فكر فيه الفلاسفة منذ أن بدأ الإنسان بالتفكير والتحليل، “ما هو العدم؟ وهل يمكنني تخيله؟”

فيصل: “أنا جاهز الآن” مخاطبا الحكيم.

أحس فيصل بطاقة كبيرة تسري في عروقه وإلى داخل جسده، إنها الطاقة التي أعطاها الحكيم له بعد أن أمسك بيده، شكر فيصل الحكيم أثناء تثاقل لسانه، وبدأ بالانزلاق إلى خياله لاستخدام قدرته الجديدة التي لطالما انتظر الحصول عليها.

بدأت رحلة فيصل بإزالة ما حوله بتركيز ذهني كبير، أغلق عينيه، وركز على إزالة الأشياء من حوله، بدأ أولا بإزالة كل ما في الغرفة، فأزال التلفاز ثم الأجهزة الإلكترونية التي عجت بها الغرفة، ثم الكراسي والأسرة من حوله، وبعد ذلك بدأ بإزالة من حوله من الناس، وجعل أخر من أزالهم من الوجود هي زوجته الحبيبة نوال، فتح عينيه ولم يجد حبيبته حوله، فدمعت عينه لذلك. ولكنه أكمل المسيرة، حيث أنه علم أن هذه هي الفرصة الوحيدة لمعرفة كيف يكون العدم.

أزال الفراش من أسفل منه، فتعلق جسده على وسادة من الهواء، ثم انتقل بذهنه إلى الغرفة فمحى حوائط الغرفة وكذلك المبنى الذي كان فيه، فأصبح في الخلاء، نظر إلى المباني الأخرى من حوله، فقرر أن يزيلها كلها، فأزالها.

حان موعد الأرض، ولكن لكي يزيل الأرض، لابد له أن يذهب للفضاء الخارجي، ولكن جسده لن يتحمل ضغط الفضاء، ولذلك لابد أن يقضي على الجسد، ويبقي الروح أو الوعي ليراقب العدم، أغلق عينيه جيدا، وتمنى إزالة جسده، فإذا بالجسد يختفي.

ثم ارتفع بروحه إلى السماء، ورأى الأرض من بعيد كما يراها رواد الفضاء، وعلم أن إزالة الأرض تحتاج لطاقة أكبر، وقد وفر له الحكيم تلك الطاقة ركز على الأرض بقواه الروحية، وإذا بها تختفي كلها وما كان عليها. أصبح فيصل وحيدا في الفضاء.

ولكنه لم يكن وحيدا بما فيها الكفاية، أدار وجهه يمنة ويسرة، فرأى المجموعة الشمسية، وبنظرة واحدة لها، وبتركيز أكبر، أزالها من الوجود هي أيضا، فظهرت له النجوم بوضوح بعد أن اختفت الشمس، أحس بأن قوته تكبر كلما ركز أكثر، يبدو أنه كلما أزال من الوجود شيئا كلما أصبحت طاقته أكبر.

نظر إلى النجوم التي ملأت درب التبانة، وبإيحاء منه وتمني أزالها كلها، فاختفت كل الأجرام السماوية القريبة، واختفت درب التبانة، ثم انتقل بعد ذلك لباقي النجوم في المجرات الأخرى، فأطفها كلها، ومحاها من الوجود كلية، أصبح الكون مظلما حالك الظلام، ولكنه علم أن الظلام خادع، حيث أنه من المعروف فيزيائيا أن الفراغ لا يعتبر فارغا، بل أنه يعج بالجسيمات الجسيمات الافتراضية، والمادة الداكنة والطاقة الداكنة، إنها تكون 95? من الكون، وجّه تركيزه صوب كل ما تبقى من محتويات الكون، فأزالها هي أيضا.

تعلق فيصل في الفضاء المظلم الخالي من كل شيء، الكون أصبح فارغ، ولكن الفراغ لا يعني العدم، فقد بقي المكان والزمان، فالمكان وإن كان خاليا من كل شيء إلا أنه هو وعاء بإمكانه أن يحتوي على الأشياء، وكذلك فإن الوعاء بوجوده سيحتوي على الزمان. ركز بكل ما أوتي بقوة، وإذا به يزيل الزمكان بالكامل، ولم يبقى شيء من حول. إنه العدم.

ذهب كل شيء، “هل ذهب كل شيء؟ هل أنا الآن في عدم؟” سأل فيصل نفسه هذا السؤال، فتذكر أن هو موجود، فكيف يمكن لأن يكون هناك عدما بوجوده، فوجوده هو شخصيا، وإن كان وجوده روحيا فهو ليس بعدم، فالعدم هو لا شيء، ولذا قرر أن يزيل ما تبقى، وما تبقى هو فيصل العميري، فيصل العميري الروح، فصيل العميري الوعي، فودع نفسه، ثم ركز جيدا، فاختفى هو أيضا، ولم يبق منه شيء.

سقطت دمعة نوال على جسد الفيلسوف الهائل فيصل العميري، فقد توفي فيصل العميري وهو في التاسعة والتسعين من عمره، وأدارت نوال وجهها إلى الطبيب وشكرته لإعطائه حقنة المورفين لتخفف ألم السرطان.

تخيل العدم

نتساءل، هل فعلا لا يمكن أن نتخيل العدم؟ حاول أن تتخيل اللاشيء، كما فعل الفيلسوف الكبير فيصل العميري، نستطيع أن نمسح من خيالنا البشر والحيوانات والنباتات والمياه والأبنية والصخور والتراب، لنزيل الأرض كلها، ثم ننتقل إلى الشمس والكواكب والنجوم والمجرات، ثم نأتي للفراغ، ربما لن تستطيع أن تزيل الفراغ، فكلما فكرت في لا شيء وجدت نفسك في ظلام دامس، ربما تستطيع أن تتخيل الفراغ أو الفضاء وكأنما يصغر تدريجيا إلى أن يصل إلى نقطة صغيرة، ولكن سرعان ما ستجد هذه النقطة في فراغ آخر، ولنفترض أنك شخص غير اعتيادي مثل فيصل العميري، واستطعت أن تزيل كل ما حولك بما في ذلك الفراغ، سيبقى هناك المراقب، وهي نفسك، وكلما أزلتها ستجد أن مراقب آخر موجود ليراقب اضمحلال المراقب الأول، بل لم تكن هناك فاصلة بين تلك وهذه.

ربما تكون أقرب طريقة لأن تعرف ما هو اللاشيء هو ما تشعر به بعد أن تقعد من النوم، إنها تلك الفترة التي مررت بها أثناء النوم حينما لا تتذكر أي شيء، بشرط أنك لا تتذكر أنك حلمت حلما واحدا أيضا، فلا تشعر بوجود عالم من حولك، ولا وقت، ولا حتى وعي تتذكره.

ولكن حتى في التجربة التي تمر بها خلال النوم لا تعتبرها تخيلا، فأنت لم تكن بوعيك أثناء النوم حتى تعرف ما هو العدم، حينما ذكرت لك أن تخيل العدم مستحيلا، إنما كان المقصود من ذلك أنك تبذل مجهودا عقليا من أجل ترى العدم في مخيلتك، لا أن يكون خيالك معطلا، وتعتبر ذلك وعيا به.

قد تكون لك تجربة في معرفة العدم، فقبل أن تأتي للحياة، أو حتى قبل أن تكون في بطن أمك، كيف كان العالم بالنسبة لك؟ قد تجيب بأنه لم يكن، بالنسبة لك فإن العالم كان معدوما، ولكن هل من الصحيح أن تقول أن لك تجربة شخصية في ذلك؟ فأنت لم تكن موجودا، فكيف ستكون لك تجربة؟ في تلك الفترة ما قبل وجودك أنت لم تكن موجودا لتكون لك تجربة شخصية مع الأشياء الموجودة، ناهيك عن تجربة شخصية مع العدم الحقيقي.

ماذا يعني أننا لا نستطيع أن نتخيل العدم؟ هل يعني ذلك أن العدم لا يمكن له أن يكون موجودا؟ نحن قمنا بتخيل الأشياء وهي تختفي شيئا فشئيا، وحاولنا الوصول إلى اللاشيء، وقد طرح هذا التخيل الفلسفي الفيلسوف هنري بيرجسون Henri Bergeson، وبعد محاولاته وفشله بالوصول إلى تخيل العدم، ادعى أن العدم غير موجود بما أننا لا نستطيع أن نتخيله. فهل نقبل بهذا الادعاء؟ ألمجرد عدم قدرتنا على تخيل العدم يصبح العدم غير ممكن؟

المشكلة في هذا التحليل الفلسفي أننا نعرف أنه لا نستطيع أن نتخيل أشياء كثيرة، ولكن لا يعني ذلك عدم وجودها، فخذ على سبيل المثال اجتماع النقيضين، هذه القضية والتي سآتي لها لاحقا في حلقة أخرى، وهي موجودة في الفيزياء، وقد أكدتها التجارب مرارا وتكرارا، نحن لا نستطيع أن نتخيل أن يكون الشخص حيا وميتا في نفس الوقت والمكان، أو لا نستطيع أن نتخيل أن الجسم يتحرك وهو ساكن في نفس الوقت، هذا شيء خارج نطاق تغطية الخيال، ولكنه موجود.

وكذلك لا يمكننا تخيل الأشياء بلا ألوان، حاول أن تتخيل شيئا من غير أن تجعل له لونا، ستجد استحالة في ذلك، لابد أن أي جسم تتخيل سيكون له لونا معينا، ولكن الذرات ليست لها ألوان في الواقع، هي في الحقيقة ليست ملونة (وسأعود على عدم قدرتك على تخيل أشياء أخرى غير تلك الأربعة لأبين أن في الواقع ما تتخيله بعمومه قاصر).

إذن، أن تتخيل العدم هو أمر مستحيل ذهنيا، ومهما حاولت أن تتخيله ستجد نفسك مرغما على تخيل شيء ما.

العدم من البداية

من أوائل الفلاسفة الذين تحدثوا عن اللاشيء هو الفيلسوف اليوناني بارمنديس Parmenides، حيث أنه ألف شعرا طويلا فُقدت الكثير من أجزائه، وبقيت بعض ملامحه في 150 سطرا لتدل على خطابه الفلسفي، كان يتحدث في هذا الشعر عن اللاشيء، فمثلا من أرائه الفلسفية أن العدم لا يأتي منه شيء، فالاشيء لا يمكنه أن يكوّن الشيء، ويتساءل، ماذا كان من الممكن أن يتحرك في اللاشيء حتى يأتي منه الشيء؟ فالاشيء لا شيء فيه ليدفعه للشيئية، وإن كانت الأشياء لا تأتي من لا شيء، فكيف إذن لدينا الكون وكل ما فيه؟ هذا مخالف للمبدأ الذي أسس له، ولذلك فقد اقترح أن كل ما نعرفه من حولنا كان موجودا في الأساس. وأن ما ندعيه: أننا نأتي للوجود أو أننا ننتهي من الوجود إنما هي كلمات تعبيرية لا تعني أي شيء في الواقع. إذن، إما أن يكون هناك لا شيء، ويبقى كذلك، أو أن هناك شيء، ويبقى كذلك، ولا يمكن أن يُعدم ذلك الشيء.

أما بعض الفلاسفة الساخرين من قدرة العدم على تكوين الأشياء، فيقول الفيلسوف الأمريكي روبرت نوزِك Robert Nozick أن العدم هي قوة ماحية، تمحو كل شيء، وحتى أنها من قوتها الماحية فإنها تمحو نفسها، ولأن محو العدم هو محو اللاشيء، إذا سيصبح لدينا شيء، فالعدم مثل المكنسة الكهربائية. تشفط كل شيء بما في ذلك نفسها فيخرج الكون، فكر نوزك بهذه الفكرة من باب المرح.

ولكن المشكلة في مثل هذا التفكير هو التلاعب باستخدام الألفاظ، فقول أن “لا شيء” هي قوة تمسح الأشياء هو ادعاء أن اللاشيء هو شيء يقوم بهذه العملية، كما أن ندعي أن لا أحد يستطيع أن يحمل الكرة الأرضية، ثم يأتي أحدهم ليقول، لابد أن “لا أحد” قوي جدا لتمكنه من حمل الأرض.

كان ذلك بالنسبة لنظرة بعض الفلاسفة للعدم من الناحية الفلسفية في بدايات تسجيل الفكر الإنساني، أما بالنسبة للوقت الحالي فهناك مدارس مختلفة تنظر للعدم من عدة زوايا، فهناك مدارس فلسفية مختلفة، وهناك أيضا العلم، والعلم أيضا ينظر للعدم من زوايا مختلفة.

العدمية

واحدة من المدارس التي تحدثت عن العدم هي المدرسة العدمية، تعرضت هذه المدرسة إلى إلغاء الأشياء من العالم شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى العدم كما ذكرت مسبقا في قصة فيصل. فوضعت قواعدا فلسفية لإثبات إمكانية حصول العدم منطقيا. ولكنها – وكعادة أي مدرسة فلسفية – تقابل بجدل منطقي فلسفي وكذلك بأدلة علمية قد تعني أن العدمية غير ممكنة.

الفكرة تتلخص في أن العالم من حولنا يتكون من أشياء، فمثلا هناك السيارة والطائرة والكرة والجبل والأرنب والذرة والإلكترونات وما أشبه من أشياء، كل هذه الأشياء محدودة وليست لا نهائية. وهذه هي الفرضية الأولى، لنفترض أننا أزلنا واحدة من هذه الأشياء، ولنفترض أيضا أن الأشياء لا تعتمد على بعضها البعض وأن كانت هذه الأشياء طائرة أو احتمالية الوجود، أي أنها أنك إن أزلتها فلن يتأثر شيء بعدم وجودها، أزلها من العالم، سيكون ذلك العالم أقل من السابق بشيء واحد، أزل شيئا آخر، وهكذا نزيل السيارة والطائرة والكرة والجبل والأرنب والذرة والإلكترونات إلى أن نصل إلى عالم خال من الأشياء، فيصبح هناك العدم، إذن من الممكن أن يكون هناك عالم العدم.

هذه كانت فلسفة العدمية باختصار وتبسيط، ولكنك لو تراجع القواعد الفلسفية لها ستجد أنها أكثر تعقيدا من ذلك، وليس من السهل طرح الفكرة بأسلوب فلسفي عميق في البودكاست، ولذلك قد يكون الطرح أقل مستوى من الطرح الحقيقة للمبدأ.

هناك عدة مشاكل في هذا المنطق ابتداء من الفرضية الأولى التي تفترض أن مكونات العالم نهائية، قد يكون العالم لا متناهي، أي أنها يحتوي على عدد لا متناهي من الأشياء، وإذا كان كذلك فإن إزالة أي شيء منه لن ينقصه أبدا، كما أن طرح 1 من مالا نهاية هو ما لانهاية، لن يكون بمقدورنا الوصول للعدم في هذه الحالة.

النقيض الآخر، وهو نقيض أيضا قوي، هو لو أننا قبلنا بصحة الافتراض الأول وأن الأشياء محدودة العدد، أي أنها نهائية، سنتصادم مع مشكلة أخرى وهي مشكلة الاعتمادية أو الاتكالية أو التبعية (Dependence)، فلربما نتصور أن الطائرة لا تعتمد على السيارة ولا تعتمد على الكرة والكرة على الجبل، فإزالة واحدة من تلك لا تؤثر على وجود الأخرى، ولكن هذا لا يعني أن كل الأشياء تعمل بهذه الطريقة، فمثلا هل من الممكن أن يكون هناك إلكترون من غير أن يكون هناك بوزترون؟ فإذا ألغينا كل الإلكترونات من الوجود، ذلك يعني أن قانون حفظ الشحنة سينكسر، وهذا ما لا يقبله علماء الفيزياء، فلابد للمحصلة النهائية أن تكون الشحنات كلها متعادلة. إلغاء إلكترون من الكون هي مخالفة صريحة للقوانين الفيزيائية.

إذن، لا يمكن إعدام شيء من غير أن يتأثر الشيء الآخر. حتى لو افترضنا أننا نعدم الاثنان مع بعض الإلكترون والبوزترون، فهذه أيضا مشكلة، فقانون أساسي في الديناميكية الحرارية يمنع صراحة أيضا مسح الأشياء بلا مقابل، فإن مسحنا الجسيم من الوجود، لابد أن تحل محله الطاقة، وإن مسحنا الطاقة من الوجود ستتكون جسيمات لحل محلها. فلا يمكن الاعتماد على فكرة إلغاء الأشياء شيئا فشيئا إلى حد الوصول إلى العدم. لأن الفيزياء لا تسمح بإزالة شيء إلا بعد استبداله بشيء آخر.

وعلى افتراض أننا استطعنا أن نزيل الأشياء كلها من الوجود إلى أن نصل إلى العدم، فمن الناحية الذهنية يبدو أننا نقبل بأن مثل هذا الأمر قابل للحصول، أليس كذلك؟ لكن حاول ان تفكر في قلب مؤشر السهم، ابدأ من العدم، ثم كون الأشياء، هل تستطيع أن تقبل هذه الفكرة؟ لاحظ أننا بدأنا بفكرة تكوين الأشياء من العدم على أنه أمر مستحيل، لأن العدم ليس شيئا ليدفع الأمور للحصول، ولكن يبدو أننا لا نجد أي صعوبة ذهنية في الإلغاء، فهل يعني ذلك أننا قد نكون مخطئين في الإلغاء إلى حد العدمية؟

العدم من الناحية اللغوية

في البداية ذكرت أن الكون لم يكون موجودا، وكان هناك عدما، المشكلة أن حتى اللغة لا تسعف في شرح العدم، فقولنا “كان هناك عدما” أو “العدم موجود” يعني أننا ندعي أن العدم هو شيء حتى يكون موجودا، وبهذه الطريقة يتحول العدم من اللاشيئية إلى الشيئية، وهذه بحد ذاته مشكلة، فكيف نصف شيئا لا يمكن للغة أن تصفه بطريقة جيدة.

أو لنفترض أننا نقول: “هناك كواكب تشابه الأرض، وأخرى لا تشابه الأرض”، ولكن لا أستطيع أن أقول: “هناك كواكب موجودة، وهناك كواكب غير موجودة” ماذا يعني أن تكون هناك كواكب غير موجودة؟ إن لم تكن موجودة، فماذا يعني أن تكون كواكب؟

وهذه هي بعض إشكالات اللغة، والتي تجعل من تحويل اللغة إلى منطق رياضيا صعبا، وإن لم يكن مستحيلا.

العلم والعدم

موقف العلم من العدم ليس كموقف الفلسفة، وهو أن العلم بمجمله ينظر للعدم على أنه فراغ، والفراغ أيضا ليس من السهل الحصول عليه، قد تعرف عن الفراغ من خلال ما درسته في المدرسة، والفراغ هو خلو المكان من الأشياء بصورة نهائية، ولكن العلم اليوم يبين أن هذا الفراغ ليس حقيقيا، وأنه مهما حاولنا أن نفرغ المكان من الأشياء إلا أننا لن نستطيع القيام بذلك، لأن ذلك ببساطة يخالف مبادئ الفيزياء، وخصوصا في يتعلق بالميكانيكا الكم.

الفيلسوف أرسطو فكر في الفراغ، ولكنه كان يعتقد أن الفراغ لا يمكن تحصيله، لأنه لا يمكن إيقاف الأجسام من الحركة فيه، وستكون سرعتها لا نهائية، بسبب عدم وجود شيء يعرقل حركتها، إذن، المكان لا يسمح للفراغ لأن الطبيعة تكره الفراغ. ولعل من الأمور التي قرأتها وسمعتها في بعض البودكاست على الفراغ أن الفراغ كان مكروها حتى من رجالات الكنيسة، إلى درجة أن الذي يقول بالفراغ يعتبر كافرا، أي تكفير على لا شيء.

تفريغ الهواء

ذكرت أن الفلاسفة القدماء لم يكونوا يعتقدون أنه من الممكن الحصول الفراغ، وإن الطبيعة تكره الفراغ، والفراغ كانت فكرة مكروهة بشكل عام، وتناقش الفلاسفة على الفراغ لفترة طويلة، ولكن لم ينجح أحدا بتكوينه لعدم توفر الإمكانات في الماضي، ولكن في سنة 1656 قام الألماني العالم السياسي أوتو فون جيغيركا (Otto von Guericke) من مدينة ماغدبيرج (Magdeburg) الألمانية بصناعة كرة معدنية قُسمت إلى نصفين، تستطيع أن تتخيل البطيخة إن قسمتها إلى قسمين، وتزيل ما بداخلها لتكون مجوفة، ألصق نصفي الكرة المعدنية ليُكوّن كرة كاملة، قام أوتو بتفريغها من الهواء كلية باستخدام مضخة تشفط الهواء من الداخل. وحينما شفط الهواء التصق نصفي الكرة المعدنيين ببعضهما البعض بقوة شديدة.

ولكي يبين للناس درجة قوة التصاق نصفي الكرة، أتى بـ 30 حصانا، وقسمهم إلى نصفين، وربط نصفي الكرة بحبال، ثم ربط الحبال بنصف الأحصنة من جانب، والنصف الآخر من الجانب الآخر، وحينما حرك الأحصنة لتسحب نصفي الكرة عن بعضهما البعض، تحركت الخيول بعشوائية، كل حصان ركض في جهة في البداية، وتلخبطت الأمور قليلا، ثم عادت لتستقر مرة أخرى، وانطلقت الخيول بسحب الحبال بقوة، ولكنها مهما حاولت أن تفصل نصفي الكرة عن بعضهما لم تستطيع. حتى أن التجربة أعيدت بـ 32 حصانا، ولكنها لم تفلح بمهمة الفصل أيضا.

يا ترى ما السبب الذي يجعل نصفي الكرة المعدنيين يلتصقان ببعضهما، ربما تعرف الإجابة مسبقا إذا كنت طالبا في الصف العلمي، وإن لم تكن تعرف فربما ستستغرب من الإجابة، السبب في أن نصفي الكرة تماسكا مع بعضهما بقوة شديدة هو الضغط الجوي على الكرة.

لاحظ أنك أنت تعيش أسفل أطنان من الهواء تصل إلى السماء، وكل هذا الهواء لا شك أنه سيشكل ثقلا هائلا على رأسك، لو أنك قمت بقياس ذلك الضغط لوجدت أنك تحمل ما يعادل طن من الهواء، أي أن على رأسك من كمية من الذرات حاصل جمعها أوزانها يعادل وزن سيارة.

حاول أن تحمل سيارة على رأسك، سيتهشم رأسك ويتحطم جسدك، لماذا إذن لا يتحطم جسدك من ثقل كل هذا الهواء، لأن الهواء موجود أيضا من حولك وبداخل جسمك، فيعادل الضغط من جميع الجهات، ولذلك فإن كان هناك هواء يضغط من الأعلى، فهناك هواء يضغط من الأسفل، ولذا لا تشعر بهذا الضغط الكبير لتساويه من جميع الجهات عليك.

قارن هذا مع الكرة، لماذا لم تنفك الكرة عن بعضها البعض؟ لأن الضغط الخارجي أكبر بكثير من الضغط بداخلها، حينما فرغت الكرة من الهواء، لم يكن هناك شيء بداخلها يضغط عكسيا، لذلك فإن الهواء في الجو الذي يشكل ثقلا هائلا سيضغط على الكرة من الجوانب بقوة شديدة جدا، فتتماسك الكرة، ولن تنفك بسهولة.

لو خرجنا إلى خارج الكرة الأرضية وبعيدا عن الغلاف الجوي، سيكون الفضاء فارغا من الهواء، وربما سيكون فارغا من الذرات المختلفة، قد تكون هناك ذرات من الهيدروجين هنا وهناك، ولكنها ستكون قليلة جدا. هذا هو الفراغ الذي اعتدنا على معرفته، ولمدة طويلة من حياتك، وربما إلى الآن قد تعتقد أن هذا الفراغ هو الفراغ الحقيقي. سنرى الآن إن كان ما تعرفه صحيحا، أم أن الفراغ لا وجود له.

هل هناك فراغ مطلق؟

إذن نحن نعلم أن الفراغ يمكن الحصول عليه بسهولة، ويمكن الحصول عليه في الفضاء الخارجي، ولكن هل هذا فراغ حقا؟ هل حينما نفرغ حاوية من كل ما فيها من غازات، أو أننا نرسل شخصا إلى الفضاء حتى يبتعد عن الغلاف الجوي بأكمله، فهل هذا يعني أن الفضاء أصبح فارغا من كل شيء؟

بل نذهب إلى أبعد من ذلك، وفي الذرة في الخصوص، فلو أنك نظرت إلى ذرة الهيدروجين، فنحن نعرف أن الإلكترون يكون سحابة احتمالية حول نواة الذرة، لو أننا كبرنا نواة الهيدروجين إلى حجم سم واحد أو بحجم زر من أزرة الثوب، لكانت المسافة بين الإلكترون والنواة بقدر نصف كيلومتر، فهل يوجد شيء بين النواة والإلكترونات في الذرة؟ بالتأكيد لا، لا ننسى أننا لا نستطيع أن نقول أن هناك هواء في هذه المساحة، فالهواء مكون من الذرات، نحن نتكلم عما بداخل الذرة نفسها.

قد تتصور أن في مثل هذه الأماكن سنصل إلى فراغ مطلق، ولكن العلم يقول غير ذلك، فلو فرغت المكان من الذرات بالكامل، أو أنك ذهبت إلى الفضاء الخالي أو أنك دخلت إلى داخل الذرة بين الإلكترون والنواة أو حتى بداخل النواة، فإنك ستجد أنها مليئة بحركة لجسيمات افتراضية تتكون من لا شيء وتعود إلى لا شيء. وقد تكون هذه هي من أغرب المعلومات تستمع لها في حياتك: هناك جسيمات تخرج من لا شيء على طاقة مقترضة من لا شيء، فتنفصل الجسيمات عن بعضها البعض لفترة وجيزة لتعود مرة أخرى لتلغي بعضها البعض وتختفي. حتى أنها تبدو وكأنها تخالف مبدأ الطاقة التي لا تخلق من العدم ولا تفنى، أو قانون حفظ الطاقة (ولكن بما أن هذه الجسيمات تخرج في جزء صغير من الثانية فإنها لا تخالف المبدأ).

بالطبع فإنها مسماة بجسيمات افتراضية، ولكنها حقيقة، وقد أثبتت التجارب وجودها. فهناك تجربة ملقبة بتجربة تأثير كازيمير (Casimir Effect)، تكشف عن وجود هذه الجسيمات الصغيرة، في كل مكان، ملخص التجربة هي كتالي:

شريحتين معدنيتين صغيرتين توضعان بجنب بعضهما البعض، بمسافة تقدر بالنانومترات، أي الشريحة تبعد بقدر 1 على مليار جزء من المتر من الأخرى، وتوضع هاتين الشريحتين بداخل غرفة مفرغة من الهواء، ويقوم العلماء بالتأكد من خلو الشريحتين من أي مغنطة أو شحنات كهروستاتيكية، أي أنه ليس هناك أي سبب تدفع الشريحتين للتحرك سواء للتباعد عن بعضهما البعض أو الاقتراب.

بعد أن وضع العلماء شريحتين بهذه الطريقة لاحظوا أن الشريحتين اقتربتا من بعضهما، ما السبب في ذلك؟ السبب يعود لوجود الجسيمات الافتراضية، فوجود الشريحتين بمسافة قريبة يعني أن الجسيمات الافتراضية التي تتكون بينهما هي قليلة جدا بالمقارنة بما هو خارج الشريحتين، ولذلك، وكما حدث في الضغط الجوي، فإن الضغط الخارجي على سطح الشريحتين من الخلف أعلى من الضغط بين الشريحتين ولذلك يقتربان من بعضهما.

العلماء حينما يقومون بشرح هذه الفكرة فإنهم يتكلمون عن موجات خارج وبين الشريحتين، والموجات تتسبب في دفع الشريحتين للاقتراب من بعضهما، ولكني للتبسيط شرحت الفكرة وقربت المعنى من خلال فكرة الضغط الجوي. هناك تجربة بسيطة تبين فكرة كازيمير من خلال موجات الماء تستطيع مشاهدتها على اليوتيوب، قام عالم بتغطيس لوحتين معدنيتين في الماء، وكانت اللوحتين معلقتان من الأعلى مقابل بعضهما البعض، ثم شغلوا هزازا من أسفل القنينة فتموج الماء، حينما يتموج الماء فإن الموجات بين اللوحتين تكونان بأطوال موجية أقل، بينما التي هي خارج اللوحتين كانت أطوالهما الموجية أكبر، وبذلك تدفع الموجات الأكبر اللوحتين إلى الداخل حتى تلتصق اللوحتين ببعض. في الأسفل تستطيع أن ترى هذه التجربة.

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=H-GnwnEnLCA&w=640&h=385]

إذن، الفراغ الذي اعتدنا أن نطلق عليه اسم الفراغ، ليس بفارغ نهائيا، بل هو مزدحم بالجسيمات الافتراضية، هي الآن من حولك، وفي الفضاء الخارجي، وبداخل الذرة، في كل مكان، تخرج وتعود لتختفي في جزء بسيط جدا من الثانية ، ولا يمكن تفريغ الفضاء منها كما تم تفريغ الكرة، وكذلك فإن الكون الذي نعرف مكوناته من مواد ذرية واشعاعاتيه لا تحكي قصة مكونات الكون بالكامل، فالكون أيضا يعج بمواد وطاقات أخرى لم يكتشف العلم ماهيتها، فمثلا هناك المادة الداكنة والطاقة الداكنة، وكلاهما يكون حوالي 95% من مكونات الكون، أي أن كل ما نعرفه هو في حدود 5%، والباقي يملأ الكون ولكنه لا يرى. فحتى هذه موجودة فيما كنا نسميه بالفراغ.

كون من العدم

نحن نعلم أن أجسادنا البيولوجية تتكون من مواد عضوية، وهذه المواد العضوية تتكون من ذرات، والذرات هي مكونات الأجسام كلها سواء أكانت حية أو ميتة، فالأرض وما تحتويه تتكون من هذه الذرات بتراكيب مختلفة، وكذلك النجوم، والمجرات، فهي أيضا تحتوي على الذرات، كل هذه الذرات تتكون من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات، وبعض هذه الجسيمات تتكون من مواد أولية وهي الكوركات.

من أين أتت هذه المواد؟ تستطيع أن ترجع الشريط إلى الماضي السحيق تدريجيا إلى أن تصل إلى بدايات الكون قبل أن تصبح الذرات على ما هي عليه، ستجد أنها تتحول إلى طاقة كبيرة منفجرة، والتي تحولت لاحقا إلى كل هذه المواد وغيرها في الكون.

إن أعدنا شريط التاريخ تدريجيا إلى الوراء إلى حوالي 13.8 مليار سنة نجد أن الكون له بداية، وهذه البداية هي من نقطة صغيرة جدا، الزمن والمكان بدءا مع بعض، الزمكان بالأحرى بدأ عند نقطة الصفر، قبل أن يكون هناك كون، لم يكن هناك مكان، ولا زمان، وهذا أمر معروف من الناحية الفيزيائية، وهنا تكمن معضلة خطيرة، وهي: إن لم يكن هناك وقت قبل أن يكون هناك كون، فإذن كيف نقول أن هناك شيء قبل الكون، فلم يكن هناك وقت ليكون هناك “قبل”، وإن لم يكن هناك “القبل” الزمني، فكيف يمكن أن يكون هناك مسبب ثم يأتي بعده السبب؟ هذه الأسئلة ربما لها إجابات متنوعة فلسفيا، ولكن لن نخوض فيها.

أما الجانب الآخر من العملة، فإن بعض العلماء يدعون أن بداية الكون لم تكن عند تلك النقطة الصغيرة بل هناك ما يسبقها، بداية كوننا هذا كانت عند هذه النقطة الصغيرة بالنسبة لكوننا نحن، ولكن كوننا الهائل الذي نعرفه والذي يعود إلى 13.8 مليار سنة في الماضي إنما هو كون انشق من كون أكبر متعدد، فذلك الكون الهائل تنشق منه أكوان أخرى بين الحين والآخر، وكل منها ربما ينفجر انفجارا عظيما بطاقة هائلة كما حدث لكوننا هذا.

تخيل لو أنك تمسك بعود مصاص وتنفخ في كوب ماء خُلط معه صابون سائل، ستجد أن الفقاعات تتكون فوق بعضها البعض. العلماء يصورون كوننا هذا وكأنه واحدة من تلك الفقاعات، ذلك الكون الهائل هو الذي ينتج الأكوان الأخرى، وكل كون من هذه الأكوان له خصائصه وقوانينه ونظامه الخاص.

وهذا يعني أن البداية لم تأتي من العدم إن كان هذا التصور صحيحا، وربما لم يكن هناك عدما نهائيا.

هذه النظرية ربما كانت أقرب ما يكون للصحة بحسب أحدث النظريات الفيزيائية والتي تتعلق بالتضخم الكوني. وقد كتبت مقالة على الجزيرة تشرح فكرة التضخم الكوني، وعرجت قليلا على الأكوان المتوازية.

الخلاصة

تحدثنا عن العدم من الناحية المادية، ولكن لم أتحدث عن العدم من كل شيء، فهناك جوانب أخرى للعدم، منها إن قسمنا الأمور إلى مادية وغير مادية أو مادية وروحية فهل من الممكن أن نُلغي أو أن نُعدم الروح؟ قد يكون الكون الناشئ من لا شيء إنما هو فقط ذلك الكون المادي الذي أتى من لا شيء، ولكن ماذا عن الروح، فهل أرواح الأشياء كانت موجودة قبل أن يكون هناك كون، ولعل يدخل في هذا الجانب إله هذا الكون.

وأيضا هناك جانب آخر، وهو الرياضيات، فالرياضيات هي أيضا مجردة، فلا هي مادة ولا هي روح، فمبدأ 1+1 = 2، هو مبدأ عام مجرد، تنطبق عليه الأمور الطبيعية، فمثلا قلم + قلم = قلمان، أو تفاحة + تفاحة = تفاحتان، أو مجرة + مجرة = مجرتان، وهكذا، المبدأ الذي استخدمناه 1+1=2 هو مبدأ رياضي مجرد، ترى له وجودا في العالم الطبيعي، ولكنه مبدأ مجرد، كذلك أي قانون رياضي درسته في المدرسة، كل هذه القوانين مجردة، وهي ليست مادة ولا روح، فهل نستطيع أن نعدمها؟ بل ماذا عن مبدأ العدالة الجمال والكراهية، هذه كلها مبادئ تجريدية، فهل يمكن إعدامها كلها لكي لا تكون موجودة؟

وفي هذه الحلقة أيضا لم أتعرض للسببية، نحن نعلم أن السببية عادة ما تكون هي سلسلة من الأحداث التي تأتي بالتتابع، فأنا أدفع بالكرة، والكرة تتحرك إلى الأمام، والشمس مضيئة فتسخن الأرض، وهكذا، المسبب ثم السبب، ولكن هناك جوانب أخرى فكر فيها الفلاسفة والعلماء في هذا الجانب بحيث تتغير نظرتك لتكون الكون من العدم، وهذا أيضا يحتاج لوقت آخر وبحث مستقل. لذلك أترك هذا الموضوع لوقت آخر

لم نتطرق لكل هذه الأمور لأننا سندخل في النقاش في قضية الإله، وإن كان النقاش في هذا المجال ممتعا، إلا أن البعض لا يستطيع أن يتحمله خصوصا أن لم يكن النقاش موجها لصالحه، لذلك تركت هذا النقاش، ويمكنك البحث عن الإجابات عن مثل هذه الأسئلة بنفسك.

الحلقة القادمة ستكون فاصلا قبل أن أستمر لأكمل سلسلة الحلقات هذه، ستكون الحلقة عن آينشتاين والقنبلة الذرية، وبعدها سأعود لأنهي السلسلة، وأتعرض للنقطة الأخيرة، وهو موضوع النقيضين، وهو موضوع يكرهه الفلاسفة، ويعشقه علماء الفيزياء، فلو انكسرت هذه القاعدة، قاعدة عدم اجتماع النقيضين، فستنكسر أهم قواعد الفلسفة.

عن محمد قاسم

د. محمد قاسم هو أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية في الكويت، يحاضر في قسم الهندسة الإلكترونية، يعد ويقدم السايوير بودكاست (برنامج علمي تكنولوجي صوتي)، وكذلك يكتب في موقع الجزيرة (علوم)، ويشجع ويحث على العلم بشغف كبير.

شاهد أيضاً

العلماء يُطورون علاجا جديدا للغضاريف المُتضررة

يعاني الكثيرون من تضرر الغضاريف المفصلية في أجسامهم من جراء التعرض لبعض الإصابات والحوادث. الغضروف …

12 تعليق

  1. حلقة جميلة و ان كنت أتمنى ان تتجاوز الخطوط الحمراء في طرحك ففي النهاية طرح الفكرة لا يعني تبنيها بالضرورة

    بعيدا عن الحلقة
    دكتور في حلقة قديمة عن الأخلاق هل هي من جزء واحد فقط ؟؟لان الموضوع شيق جدا و أتمنى تكملته

  2. حلقة أكثر من رائعة لكن عتبي عليك يا دكتور أنك تحجم عن الخوض في مسائل مهمة حرصًا على مشاعر البعض
    ولو صحّ حذرك هذا لما جاهر بالحق أحد
    قل ما تشاء وليرضى من يرضى وليغضب من يغضب فالحق أكبر من الجميع
    سؤالي
    إذا كان الكون يتوسع فحتمًا له حدود
    إذًا ماذا يوجد خلف حدود الكون ؟
    هل هو العدم ؟
    والسؤال الآخر
    لماذا نحسب الجسيمات الافتراضية تظهر من لا شئ
    ألا يمكن أنها أتت من أبعاد أخرى ثم عادت إليها
    في الحقيقة توجد عندي صعوبة كبيرة في تقبل خروج جسيمات من العدم ولعل هذا الموضوع بحاجة لحلقة كاملة

    • لا يوجد خلف الكون شيئا، ليس هناك خلف، فالكون ليس في وعاء، بل هو يحتوي نفسه.

      حاليا يقول العلماء أن الجسيمات الافتراضية خرجت من العدم، بحسب المعطيات التي لديهم، ولكن إن أراد أحدا أن يقول أنها تأتي من أبعاد أخرى فلابد من إثبات هذا الشيء، ولا بأس بذلك.

  3. تحياتي دكتور محمد
    مازالت مسألة حدود الكون غامضة بالنسبة لي
    فكما ذكرت بدأ الكون من تجمع للطاقة في نقطة واحدة
    عندما أسمع هذا الكلام أتخيّل مباشرة نقطة في فراغ
    ثم أخذت هذه النقطة في التوسع في كامل الاتجاهات
    هل هذا التصور صحيح ؟
    وإذا كان كذلك فحدود تلك النقطة هي نفسها حدود الكون
    وإذا لم يكن كذلك فما هو التصور الصحيح؟

  4. حلقة مميزة ..ننتظر التكملة

    نرجو تكملة حلقة الأخلاق لأنها ممتعة
    شكرا دكتورنا

  5. عادل العنزي

    لايمكن تخيل العدم بأي حال من الاحوال
    ولايمكن نعت العدم باللاشئ او الفراغ
    هل تستطيع تخيل ان لاتكون هناك لاماده ولامكان ولازمان .. لايمكن تخيل ذلك.

  6. عادل العنزي

    التفكير بالعدم يبين قصور العقل .. لايمكن تخيل العدم او الاقتراب منه

    هل الانفجار الكبير توسع على حساب العدم
    هل للانفجار الكبير حدود !
    ماوراء هذا الحدود !
    اذا كان الانفجار العظيم قد بدأ من نقطه .. ماهو المحيط بهذه النقطه !

    اذا كان الكون سوف ينكمش .. اذن سوف يخيم عليه العدم مره اخرى!

  7. مروان البوسعيدي

    مقال و فيديو اكثر من رائع

  8. أسعد الله مسائكم بكل خير ..

    دكتور راح أتوسع أيضاً بطرح الآراء والتعليقات والاستفسارات وأرجو أن تتقبلها بصدر رحب نحن هنا للمناقشة العلمية ..

    (تبذل مجهودا عقليا من أجل ترى العدم في مخيلتك، إذن من الممكن أن يكون هناك عالم العدم).

    *مسألة انو إنت تفكر بمخيلتك هذا يعني أنك موجود كما قال ديكارت (أنا أفكر إذا أنا موجود)
    وجودك وفكرك بحد ذاته وجود
    فكيف يكون الفراغ أو العدم

    (إذا لا يمكن إعدام شيء من غير أن يتأثر الشيء الآخر)

    *هذا في الكون نفسه ليس في فكرة الله لانه لا نهائي مطلق متكامل

    أنت قلتها مسألة العدم هو تخيل ذهني فقط
    ولكن الحقيقة أن الأشياء موجودة
    أنت جاوبت عليها بمنطقية هنا يا دكتور ..

    (إن لم تكن موجودة، فماذا يعني أن تكون كواكب)؟

    *ماعرفنا إنها كواكب إلا لأنها أصلاً موجودة

    (فحتى هذه موجودة فيما كنا نسميه بالفراغ).

    كلام جميل إذا نتفق إذا كان هذا الفراغ به وجود

    لذلك من أين وجدت هذه الطاقة الكبيرة المنفجرة
    التي يدعون أنها وجدت هكذا بالصدفة !
    هل نعاكس المنطق العلمي أنها وجدت بالصدفة أم من العدم أكيد لها موجود مسبب ؟!

    (هناك جسيمات تخرج من لا شيء على طاقة مقترضة من لا شيء)

    *إذا وجد ذلك لا يعني أنه دائم
    وإن كان دائماً فقد تكون أمراً غير مكتشف
    فكما قلت نحن لا نعلم إلا ٥٪ من هذا الكون
    وإذا كان هناك طاقة يعني هناك وجود لشيء
    أما إذا كنا دقيقين فيما نعلم لنرى التكوين علمياً
    في النهاية هذه الجسيمات داخل نواة
    يعني داخل شيء موجود
    وحولها شيء موجود
    فكرة انو الكون يتوسع لوجود الآكبر معناته وجود

    إذاً فكرة العدم حتى الآن لم تُثبت !

    لم يكن هناك وقت قبل أن يكون هناك كون، فإذن كيف نقول أن هناك شيء قبل الكون، فلم يكن هناك وقت ليكون هناك “قبل”، وإن لم يكن هناك “القبل” الزمني، فكيف يمكن أن يكون هناك مسبب ثم يأتي بعده السبب؟

    لما قلت دكتور تقول كيف يكون في وقت ؟!
    هذه سفسطة بالآلفاظ “القبل الزمني”
    هذا مثل لما أقول كان الله الواحد موجود
    من فين جبتي العدد واحد ؟!
    هل فكرة العدد موجودة مثل الـ قبل الزمني ؟!
    قبل كلمة مطلقة واستخدمناها كمصطلح زماني نعبر عنها .. احنا نعبر عن شيء قبل خلق هذا الكون الي احنا فيه طبيعي بنقول قبل .. وإلا ما الكلمة المناسبة ؟! بالتالي هي سفسطة لفظية
    ويجب أن تُعرف معنى الزمن أولاً ؟!
    هل هو حاجة ملموسة مثل المكان ؟!
    هو كذلك مجرد ليس مادة ولا روح

    استخداماتها في الدين ..
    قبل وبعد استخدمت بالآلفاظ الزمانية أما الزمان مذكور في القرآن وزمن كيفية الخلق في الآحاديث أما الزمان هو من الله تعالى
    فقد قال ربي بالحديث القدسي لا تسبوا الدهر أنا الدهر ..

    خلينا نتكلم عن القبل الزمني المطلق ؟
    وجود القبل الزمني المطلق قبل أي كائن هو الله تعالى وحده لا شريك له فلا أحد قبله ثم بعد ذلك خلق الكون ثم بدأت مسألة الوقت لدينا بدقة والله من يقلب الليل والنهار ويحرك روح هذا الكون بما فيه من تنظيم عجيب

    أما الوجود كما ذكرنا (لاوجود بالصدفة ولا من العدم) آقلها يكون في حاجات موجودة حولها ..
    مثل جسيمات حولها النواة ثم الآكبر فالآكبر في احنا حولها ثم الآكبر وهو الوجود المطلق الله تعالى إذاً لم تتكون هذه الجزيئات من عدَم !
    إذاً مثل الدوآئر من الأصغر فالآكبر ..
    ووجود الآلهة هو (وجود كمالي تام أي أنه هو الآكبر) .. ولا نقارنه بتحركات الموجودات الناقصة .. لأنه قياس مع الفارق ..

    هو من أوجد كل شيء حولنا لأن الآلهة أصلاً موجودة فلا معنى لفكرة العدم التام !
    والا مافكرنا الان وتحركنا ..

    كما قلت بكل منطقية دكتور (فهل أرواح الأشياء كانت موجودة قبل أن يكون هناك كون، ولعل يدخل في هذا الجانب إله هذا الكون).
    (وهذا يعني أن البداية لم تأتي من العدم إن كان هذا التصور صحيحا، وربما لم يكن هناك عدماً)

    حتى الفيلسوف فيصل لم يلغي الآشياء حتى من ذهنه في الخيآل عدماً ولكن لأنه يفكر فهو موجود

    إذاً (لاوجود من عدم)

    بالتوفيق دوماً ،،

  9. أمجد بن شيخان

    السلام عليكم. حاليا اقرأ كتابك دكتور. راق لي الكتاب كثيرا.
    هل بالامكان أن تخبرنا أكثر عن الفيلسوف فيصل العميري، خانتني الشبكة في محاولتي للحصول على المزيد من المعلومات عنه. بورك مسعاك..

اترك رد