التصنيف والجماعات (علم الإجتماع)ـ

التصنيف والجماعات (علم الإجتماع)

نزلdiskاشترك مجانا على الآيتيونزipodسجل إعجابك على الفيس بوك Sciware Podأنا موجود على التويتر mqasem

أدعوك اليوم للاستماع للحلقة بتمعن، لهذه الحلقة أهمية كبيرة في نظري، وأهميتها تعود في أنها ستدعوك لإعادة النظر في فهمك لانتمائك لجماعة معينة وستضيء الحلقة هذه جانب من جوانب تعاملك مع الجماعات الأخرى، في هذه الحلقة سأتكلم عن قدرة الإنسان على التصنيف، وأيضا عن تصنيف نفسك لجماعة معينة، وسأخلط في الحلقة القادمة بين علم النفس وبين العلم الحديث المعمول به في علم النفس فيما يرتبط بالتصنيف، وأعتقد أنك ستستفيد شخصيا من هذه المعلومات وستغير نظرتك للواقع الذي تتعايش معه، مع إنني سأطلب منك الإنتباه معي، ولكن أعتقد أن المعلومات التي سأطرحها في هذه الحلقة ستكون لها جاذبية خاصة تحتم عليك الإنتباه.

التصنيف والحاجة له

لو إتجهت إلى المكتبة لتشري كتبا لأطفالك الصغار، وهناك أتكلم عن الأطفال في بداية التعلم، لوجدت الكثير من الكتب التي تعلم الطفل تصنيف المعلومات المختلفة إلى أصناف محددة، فعلى سبيل المثال ستجد كتبا تعلم الطفل الألوان، هذا هو اللون الأحمر، وذلك هو الأخضر، وذاك أزرق، وغيرها من الألوان، أو أنك تجد كتبا تعلم الطفل الأشكال، فمنها المثلث، ومنها المربع، وكذلك الدائرة، وغيرها، أو أنها تعلم الطفل الحيوانات بأنواعها، والكتب التي تعلم الطفل الأطعمة، وغيرها، وتلك التي تعلمه الأعداد، وهكذا، مع تقدم العمر، تجد أن الطفل يتعلم هذه الأمور وأمور أخرى كثيرة جدا، ويصنفها على حسب تصنيفاتها المنطقية، والآن أنت لو توجهت إلى محل الخضروات ستجد أصنافا من التفاح، منها الأخضر ومنها الأصفر ومنها الأحمر، وستجد نفسك تصنفها كلها على أنها تفاح باختلاف ألونها وأحجامها، وإذا ما رأيت أنواع مختلفة من الحيوانات الأليفة، لاستطعت تصنيف كل منها في تصنيفها الصحيح، فالكلاب وإن اختلفت عن بعضها في أطوالها وأشكالها وألونها لن تختلط عليك لتصنفها مع القطط، ولا القطط مع الطيور ولا الطيور مع الحشرات، وهذه الخاصية – خاصية التصنيف – هي خاصية إدراكية لها علاقة وثيقة بتركيبة مخ الإنسان وسأتطرق لهذه الموضوع في الحلقة القادمة.

يا ترى ما هي أهمية التصنيف؟ في أحدى محاضرات البروفيسور بول بلوم (Paul Bloom) في جامعة ييل (Yale University) يقول أن التصنيف يلعب دورا كبيرا في تمميزك بين الأمور التي تعرضك للخطورة والأمور الآمنة التي لا تحتاج أن تحتمي منها، فمثلا حينما ترى حيوانا معينا ستقول هذا أسد، سأهرب منه، هذه قطة، سأقترب لأمسح على شعرها، أو هذه النبة سامة سأتفادى الأكل منها وهذه غير سامة بإمكاني الأكل منها، أضف لذلك أن بقدرتك على التصنيف بإمكانك تصنيف البشر، فأنت تصنف الذكر والأثنى كل منهم في صنفه، وتصنف الأطفال والكبار في السن، وتصنف الوجوه لتعرف الحالة النفسية التي يكون فيها الناس، هل هذا الشخص فرح أو متضايق أو منزعج أو غضبان، وهكذا، هل هذا الشخص مصري كويتي عراقي سعودي، هل هذا الشخص غربي أم شرقي، هل هذا الشخص سني أو شيعي، كل هذه التصنيفات تحدد طريقة تفاعلك مع الآخرين، هل ستتعامل مع الغضبان بالطريقة نفسها كما لو تتعامل مع الفرح؟ هل تتعامل مع الصغير في السن كما تتعامل مع الكبير؟ هل ستعاطف أكثر مع شخص من من مصر أكثر من تعاطفك لشخص من السعودية لأنك تصنف على أنك مصري؟

تجربة كهف اللصوص

الكثير من الأمور التي تتعامل معها يوميا أنت تتعامل معها على أساس التصنيف، وربما من أهم تلك التصنيفات التي تحدد طريقة تعاملك مع الآخرين هو تصنيفك وانتماؤك للجماعة، وأنت تنتمي للكثير من الجماعات، أنت إمرأة شابة متزوجة مسيحية في الجامعة الأمريكية لبنانية بيضاء، أنت تنتمين لكل هذه المجموعات وتتأثرين وتعملين من خلالها بدرجات مختلفة، وتتعاملين ربما بحدية أكثر مع الجماعات الأخرى أو بدرجة من التعاطف أقل، أنت ربما ولدت في بعضها، وربما ليس لك أي خيار في بعضها، ولكن هناك جماعات أنتميت لها لاحقا، وربما بعضها تتشكل من غير أي أساس منطقي، هذه كلها تؤثر على أخلاقك مع جماعتك والجماعات الأخرى، الدكتور مزفر شريف (Muzafer Sherif) (مظفر كما نقول)، تركي الأصل من مؤسسي على الإجتماع، ومن كبار متخصصيها، أجرى عدة تجارب لمعرفة كيفية تعامل الناس مع بعضهم البعض بناءا على اتماءاتهم الإجتماعية، ليعرف أسباب أصول التعصب، ومن أشهر التجارب التي أجراها تسمى بتجربة كهف اللصوص (Robbers Cave Experiment)، وتعود تسمية هذه التجربة إلى المكان الذي أقام فيه شريف هذه التجربة، حيث كانت في منتزه كهف اللصوص في أوكلاهوما في الولايات المتحدة الأمريكية.

اختار لهذه التجربة 24 طفلا، في حوالي سن الثانية عشرة، كلهم متقاربين من حيث الحالة الإجتماعية، وقسمهم إلى قسمين متساويين، ونقل كل مجموعة مكونة من 12 طفل على باص  مختلف، فأرسلهم إلى المنتزه، ولم يكن يعلم أي من الفريقين عن الفريق الآخر، أي أنهم لم يتعرفوا على بعض قبل نقلهم وحتى عند تكوين المجموعتين، ثم كوّن معسكرين أو مخيم لكل فريق، ولم يعلم أي من فريقين عن مخيم الفريق الآخر، وبدأ كل من الفريقين بتكوين روابط في ما بينهم، وعزز شريف – الذي مثل دور البواب – هذه الروابط، فبدأت كل مجموعة بإقامة خيمهم، وتخصيص أماكن السباحة، وطهي الأكل، وإقامة مختلف النشاطات الإجتماعية لتعزيز الروابط فيما بين أفرادها، وأوتوماتيكيا أسمت كل مجموعة نفسها بإسم، فكانت واحدة تسمي نفسها بالصقور (Eagles)، والأخرى بالجرسيين (Rattlers) نسبة إلى الحية الجرسية (Rattlesnake)، وبدأت كل مجموعة بتكوين قوانين أو قواعد خاصة بها.

بعد أن أصبحت هناك روابط قوية بين أفراد المجموعة وبعد أيام تدريجيا انتقلت التجربة للمرحلة الثانية، فبأدت كل مجموعة بمعرفة وجود المجموعة الأخرى تدريجيا، حيث أن المطعم الذي تجتمع كل مجموعة فيه على حدة تُترك فيه آثار للمجموعة الأخرى مثل الأطباق والأكواب، وبدأت كل مجموعة بسماع أصوات من المجموعة الأخرى، وهنا بدأ الحس بنحن وأنتم، وبدأت كل مجموعة بتكوين الحس بالمكان، فهذا مكاننا وهذا مكانكم، “أرجو أن لا يقتربوا من أماكن سباحتنا”.

 وفيه هذه المرحلة تم تعزيز الإنتماء للجماعة عن طريق المسابقات والتي طلبت المجموعات ذاتها القيام بها، أضف لذلك أن كل فريق بدأ بتكوين تصور عن طبيعته، وهو أن فريق الصقور مثلا كان يؤكد على أنه الفريق المحترم الذي لا يسب، وهو فريق منظم، بينما فريق الأجراس كان قبيح وسباب، وفريق الأجراس كان يدعي أن فريق النسور فريق ضعيف، وطيب زائدا عن الحد.

وبعدها أقيمت المسابقات بينهم، وحتى المسابقات تم التلاعب فيها حتى تكون النتائج متقاربة حتى يكون التنافس على أشده، فجعلوا الفريقين يتناولون الطعام في نفس القاعة وفي نفس الوقت، وأروهم الجوائز هناك حتى يعرف الفريقين علام يتبارون، فبدأ الفريقين بالتنابز بالألقاب، والغناء بأغاني تحط من قيمة الفريق الآخر.

ثم بدأوا باللعب ولعبوا لعبة البيس بول (Baseball) وفي أول لقاء بدأ الفريقان بالتسابب، وبعد أن خسر فريق النسور أخذ الفريق بعلم الأجراس وأحرقوه، وفي اليوم التالي أحرق فريق الأجراس علم النسور، ولعب الفريقان ألعاب أخرى كلعبة جر الحبل، فربح النسور هذه الجولة، وإزدادت الكراهية بين الفريقين، فيمر فريق عند الفريق الآخر وقد أغلق أنفه (تعبيرا عن الرائحة المنتنة للفريق الآخر)، والآخرين يسبونهم، وبدأ كل من الفرق بغزو مخيم الفريق الآخر، وحتى يحمي فريق النسور مواقعه بدأ بجمع الصخور حتى يلقوها على عدوهم، وتدخل العاملين حتى لا تتطور الأمور أكثر من ذلك، وكثرت الغارات بين الفريقين، وحدثت السرقات، وتعدي على الممتلكات، وتطورت الأمور إلى أقصى حد من الكراهية بين الفريقين.

دخلت التجربة في مرحلتها الأخيرة بعد أن أصبحت هناك كراهية بين الفريقين، في المرحلة الأخيرة أراد شريف أن يعالج الأزمة بين الفريقين، واراد تكوين السلام والتآلف فيما بينهما، فعمل العاملون على مرحلة التعارف ما بين الفريقين، فكان أحد النشاطات هو نشاط التشارك في جمع الحبوب، ومشاهدة الأفلام مع بعضهم، أو اللعب بالألعاب النارية، ولكن كل هذه النشاطات لم تأتي بنتيجة، حتى أن كاد نشاط الألعاب النارية أن ينهي التجربة، وكلما اجتمع الفريقان في صالة الطعام كانا يلقون بالطعام على بعضهم البعض، بعد ذلك أقيمت مسابقات على المستوى الفردي بين الفريقين، ولكن الفائزين كانوا حينما يعودون لفريقهم ينسبون الفوز للفريق وليس للفرد، ثم بعد ذلك أرسل العاملين بفردين من كل فريق للتفاوض على السلام بين الفريقين، ولكن بعد رجوع كل من المتفاوضين لمخيماتهم، اتهمهم أفراد الفريق بالخيانة، كل ذلك لم يصنع السلام والتآلف بين الفريقين، حتى أن العاملين أتوا برجل دين لوعضهم ولحثهم على التعامل مع الجيران بالمعاملة الحسنة، وبما أنهم كلهم مؤمنين، كان المعتقد أنه سيستفيد الفريقين من رجل الدين وسيتآلفان، ولكن حتى في هذه الحالة لم يتقارب الفريقان، حيث الفكرة التي تشكلت في أذهان أفراد الفريق هي أنه صحيح أنه لابد أن يعامل الجار باحترام وطيبة، فمبا أنني من النسور فلابد أن أعامل جاري النسر بطيبة واحترام، أما أولئك الأجراس فهم أشخاص لا يستحقون المعاملة الطيبة.

فتوصل العاملون إلى أن هذه الطرق لم تجدي نفعا، فاتفقوا على أن يقوموا بتجربة تكون فيها هناك أهداف مشتركة أو عدو مشترك، فافتعلوا مشكلة شرب الماء، حيث قطعوا الماء عن المخيمين بالكامل، فتخوف الفريقين من مواجهة العطش، وفعلا بدأ كل من الفريقين بالإحساس بالعطش وازداد العطش مع مرور الوقت ومع كل نشاط، واتهم العاملين مخربين خارجيين بقطع الماء عن المخيمين، واكتشف الفريقان أن السبب في قطع الماء أنه الأنبوب الذي يوصل الماء إلى المخيم والذي قد تم حشوه بكيس، فاتجمع الفريقان عند إنبوب الماء في محاولة لإزالة الحشوة، وبدأوا بالتناقش حول كيفية حل المشكلة، وتعاونوا على الحل، وفي خلال 45 دقيقة تم حل المشكلة في أجواء من الحماس المشترك، ولم يعترض الأجراس على أن يبدأ النسور بشرب الماء قبلهم، وحتى في تلك الأثناء لم يتنابز الفريقين بالألقاب، بل تعاملوا مع بعضهم بحسن المعاملة.

بعدها نظم العاملون مشاهدة فيلم مفضل يرغب الفريقين بمشاهدته، فاختار العاملون فيلمين بناءا على متخصصين  في الأفلام أتوا بهم إلى المخيم، فأتوا بالفريقين، وفتحوا باب التصويت على الأفلام، فاختار الفريقين بأغلبية وحماس أحد الأفلام، وأخبرهم العاملون أنهم حتى يحصلوا على الفيلم عليهم الإشتراك في دفع قيمة الفيلم، وبعد نقاش اتفق الفريقان على المساهمة بمبلغين متساويين.

بعدها تناول الطعام الفريقان مع بعضهما ولم يعترض الفريقان على ذلك، وقل نشاط الكراهية فيما بينهما، ثم أشركوا الفريقين في مسابقة شد الحبل وخلطوا أفراد الفريقين مع بعضهم كل على جهة، فأصبح الهدف مشترك بين أفراد الفريق المشترك، فقلل ذلك من حدة الصراع بينهما، إلى أن انتتهت التجربة، فقرر الفريقين أن يرجعا إلى المدينة في باص واحد وهتف الفريقان بحماس لهذه الفكرة، وفي الطريق توقف الباص عند الدكان، فاشترى الأجراس بأرباحهم من المسابقات الطعام، وشاركوا النسور فيه.

إذن الحل لمشاكل بين فرق متخاصمة هو إيجاد الأهداف المشتركة، ويقول البرفيسور بلوم مازحا، أنه لو أردت أن توحد العالم كله بل أطيافه ودياناته، لاحتجنا لغزاة أعداء من الفضاء الخارجي، ربما لا تحتاج لذلك بقدر احتياجك لأهداف مشتركة يشارك فيها الجميع.

التعصب للجماعة

قد تتخيل أن المجموعة التي تنتمي لها وتناصرها وتدافع عنها إنما أن تدافع عنها وتتأثر بها إنما هو من باب المبدائ، وأنك أنت الصحيح والآخرون مبادؤهم خاطئة، أنت سني ذاك شيعي، ذاك بدوي والآخر حضري، وأنت كويتي والآخر مصري، أنت صح هو خطأ، أنا وجماعتي نقوم على مبادئ صحيحة، والآخر يعيش على مبادئ غير صحيحة، لذلك أنا أدافع عن مجموعتي وعن فريقي لهذه الأسباب وتلك، فتنشأ العدوات كما نشأت في هذه التجربة، ولكن هذه الصورة غير كاملة كما دلت التجارب، فدفاعك عن مجموعتك لا يعود لأسباب منطقية، ولا يعود لأنك أنت الصحيح وهو الخاطئ، بل يعود لكونك في جماعة، والتجارب تبين أنه حتى لو كنت تنتمي لجماعة مكونة بشكل عشوائي لكنت متعصبا لها بنفس الطريقة.

الدكتور البولندي البريطاني هنري تاجفيل (Henri Tajfel) في دراسته للتعصب، كان يعتقد أن التصنيف الذي يعتمد على العملية الإدراكية يؤثر كثيرا على التعصب، وبدأ بإقامة تجارب تسمى بـ “تجارب المجموعة الدنيوية” (للأسف لم أجد ترجمة لكلمة Minimal Group Experiments)، وهي المجموعات التي تتشكل على أدنى المبادئ، وكان الهدف من هذا النوع من هذه التجارب هو معرفة أدنى الحالات المطلوبة ليتكون التعصب بين المجموعات. فقام تاجفيل بتقسيم الناس إلى مجموعتين عشوائيا بناء على قواعد بسيطة وعلى أسس غير مهمة، ففي إحدى التجارب عرض تاجفيل لوحات فنية لأشخاص مختلفين، وإعتمادا على ردودهم، صنفهم إما على أنهم محبي الكلي أو الرسام بول كلي (Paul Klee) أو من محبي كاندنسكي أو الرسام وازلي كاندنسكي (Wassily Kandinsky)، طبعا ذلك كله كان مصطنعا، فعليا كان اختيار الشخص في المجموعات عشوائيا، ولم يعتمد على اختيار الأشخاص للرسومات ولا لأذواقهم، حينما تم مقابلة جماعة الكلي، ساد الإعتقاد عندهم على أنهم أنهم أذكى من جماعة كاندنسكي، وأنهم على استعداد للتقديم تبرعات مالية إلى جماعتهم أكثر من الجماعة الأخرى، ويقول الدكتور بول بلوم في محاضرته عن الأخلاق أن بعض التجارب كانت تقسم المجموعات بناءا على وجه العملة بعد تقليبها بالهواء، ويتضح أنه حتى بهذا التصنيف العشوائي، ستجد أن كل مجموعة تتصرف كما لو أن هناك خصوصية للمجموعة التي ينتمي لها.

وأقام تاجفيل عدة تجارب ليفهم تأثير تصنيف الأشياء على آراء الأشخاص، فواحدة من التجارب يقوم فيها الأشخاص بتقدير أطوال خطوط معينة، فاكتشف تاجفيل أن تصنيف الخطوط يؤثر مباشرة على تقدير الشخص، فتخيل لو أريك مجموعة من الخطوط المختلفة بالطول وقلت لك أن هذه الخطوط تنتمي للمجموعة أ، ثم أريك مجموعة من الخطوط الأخرى الأقصر وقلت لك أنها تنتمي للمجموعة ب، لقلت لي أن الخطوط في المجموعة أ متجانسة مع بعضها، والخطوط في المجموعة ب أيضا متجانسة مع بعضها، مع أن هناك تجانس بين أقصر الخطوط في أ مع أطول الخطوط في ب، ولو أنها لم تصنف الخطوط هذه لاختلفت أجاباتك في الأطوال، ولذلك لاحظ تاجفيل بعد عدة تجارب من هذا النوع أن التصنيف يجعلك منحازا للصنف.

فبسبب التصنيفات ستجد أن الناس مثلا تجعل هناك تقارب كبير ما بين أبناء البلد الواحد، وفروقات ما بين أبناء البلدين، فمثلا قد تعتقد أن مواطني السعودية متجانسين أكثر مع بعضهم، وكذلك القطريين متجانسين مع بعضهم، وفي المقابل يختلف السعوديون عن القطريين، وكذلك، قد تعتقد أن التجانس بي أبناء السنة كبير، وكذلك الشيعة، ولكن لا يتجانس أبناء الفرقتين مع بعض، وكذلك البدو والحضر والبريطاني والإيراني، وهكذا، المشكلة تتفاقم أيضا حينما يقوم الناس بتكثيف أو تشديد هذه الصفات المتجانسة وتكثيف أو تشديد الفروقات وإن لم تكن هذه التجانسات والفروقات صحيحة، وهذه الطريقة في التعامل مع التصنيفات إنما هي جزء أساسي من تركيبتنا الإدراكية، وهي لا تختص بطبيعة شخصيات معينة، إنما هي من طبيعة التفكير الإعتيادي، وقام تاجفيل بنشر ورقة علمية في سنة 1969 بعنوان “الجوانب الإدراكية للتعصب” (Cognitive Aspects of Prejudice).

بالمشاركة مع الدكتور جون ترنر (John Turner) قام الدكتور هنري تاجفيل بتكوين نظرية أسموها بنظرية الهوية الإجتماعية (Social Identity)، واعتمدت هذه النظرية على التجارب السابقة لتاجفيل، وتجارب أخرى، حيث أن الفكرة في هذه النظرية هي أن الشخص عادة ما يقوم بتصنيف الأشياء والبشر، ثم يكون له هوية اعتمادا على وجوده في تصنيف، فحينما ينتمي لفريق كرة قدم أو أسرة أو مذهب أو قبيلة أو بلد أو ما شابه، فذلك يعطي الشخص الثقة بالنفس والعزة، أو لنقل هوية إجتماعية، وحتى يرفع من مستوى هذه الثقة والعزة يقوم بتكثيف أو تحسين مكانة المجموعة التي ينتمي لها، أضف لذلك أنه بما أن هناك مجموعات الأخرى الضد، يقوم الشخص برفع من مكانة مجموعته بالنيل المجموعات الأخرى عن طريق البحث عن سلبياتها والتنزيل من مستواها، فبذلك ينقسم العالم إلى هم ونحن، وينشأ التعصب.

قد تقول الآن صحيح، ولكن أنا لا أتأثر بالجماعة، أنا لأني مؤمن بمبادئ صحيحة، فالجماعة لا تؤثر على رأيي وعلى علمي بالحق، وتقول جماعتي على صح، جماعتي جماعتي جماعتي، والجماعة الأخرى هي الخاطئة، هل تلاحظ أن لم تخرج عما ذكرته قبل قليل؟

هناك تجارب تقول أن السخص يتأثر بالجماعة وبضغط الجماعة ليتمشى معها حتى لو كانت الجماعة على خطأ وهو يعتقد خلافها، ففي تجربة قام بها سولومن آش (Solomon Asch) تسمى بتجربة آش للإمتثال أو الإنسجام (Asch Conformity Experiments)، في هذه التجربة أتوا بمجموعة من الطلاب، وقيل لهم أنهم سيقارنون خط بطول معين إلى ثلاث خطوط أخرى تختلف بالطول، واحد من هذه الخطوط يتساوى مع الخط الأول تماما، ما لم يعرفه أحد الذين سيتم اختبارهم (لنسميه الخاضع للتجربة أو اختصارا الخاضع) أن جميع زملائه متفقين سابقا مع المختبِر (لنسميهم ممثلين) على أن يعطوا الأجابة الخاطئة ، فجلسوا بجانب بعضهم البعض على كراسي وجلس الشخص الذي سيتم اختباره قبل النهاية (أي من أول شخص سيقوم بالإجابة) ووضع المختبر أمام الجميع ورقة وعليها الخطوط، في أول محاولة أعطى الممثلون الإجابة الصحيحة فانسجم معهم الخاضع، وبعد مشاهدة الورقة الثانية أيضا اتفق الجميع، ولكن بعد ذلك بدأ الممثلين بإعطاء إجابات خاطئة، حيث أنهم كلهم أجابوا بأن الخط الأول يساوي في طوله خطا مختلفا في الطول، ولو أنك رأيت تلك الخطوط للاحظت أنه من الواضح أن جميع الممثلين مخطئين، وحتى أن الخاضع يشك في صحة إجابتهم، فيتوقف قليلا لاستغرابه من إجابة زملائه، ولكن في النهاية يقرر أن يتماشى مع الجميع، ومن هذه التجربة لاحظ آش أن 37% من المشاركين يحاولون التماشي مع الجميع وإن تيقن بعضهم بأنه على صح، وحتى أن 75% من الذين تم اختبارهم أعطوا إجابة خاطئة لسؤال واحد على الأقل وذلك للتماشي مع المجموعة، ولكن تأثير الجماعة قل حينما لم يصوت الشخص علاينة، أي حينما يكتب إجابته على ورقة، وذلك لأنه لا يحس بالحرج كأحد أسباب التماشي أو الإنسجام مع المجموعة.

[youtube=http://www.youtube.com/watch?v=iRh5qy09nNw]

لاحظ كيف أن المجموعة تؤثر في الكثير منا، وهذه التجربة كانت بسيطة وعلى شيء لا يمكن الشك فيه من الناحية العلمية (أقصد الخطوط)، ولكن ما حدث أن الناس حتى في هذه الأمور تتأثر بالجماعة، وتأثرها لا يعتمد على المنطق ولا العلم، بل على أمور أخرى، فتخيل الآن لو أن الأمور لم تكن بنفس درجة الوضوح، كيف سيكون موقف الناس حينما تكون في أوساط جماعتها؟

إلى هذا الحد أنتهي من البودكاست، ولكن أود أن أذكرك بأن تفكر فيما قلته، هذه التجارب لها دور كبير في تأسيس علم الإجتماع، ووبينت الكثير عن انتمائنا للجماعات، وعن نشوء التسماح في جماعتك، والتعصب للجماعات الأخرى، لعله تكون في تركيبتك أكثر تعقيد مما بينته تلك التجارب، وربما تقول “أنا لست كذلك، أنا عاقل،” ربما تكون كذلك وتصر على رأيك، وربما لا تحب أن تختزل شخصيتك في مجموعة من التجارب هذه، صحيح، ربما تكون أكثر تعقيدا، ولكن أتمنى أن تكون هذه التجارب قد أنارت لك جانب كنت تجهله في عن الطبيعة البشرية، وإذا ما كنت مجتمعا مع جماعتك والكل منسجم مع بعضه البعض، والإنفعال من الجماعات الأخرى، عندئذ هل ستنسجم معهم أم أنك ستفكر في هذه الحلقة، وتراجع نفسك؟

بالنسبة للحلقة القادمة، في الحقيقة أنا  جهزت حلقة طويلة، ولكني قررت تقسيمها إلى قسمين، يكون فيها القسم الأول هو علم الإجتماع في التصنيف والجماعات، والحلقة الثانية ستكون عن المخ والتصنيف والجماعات، سنرى كيف أن تصنيفك للأشياء وتفاعلك مع الجماعات له ارتباط وثيق بتركيبة مخك، وسنتعرف على بعض أجزاء المخ المسؤولة عن قدرتك على التصنيف وبعض التجارب التي درست المخ دراسة من خلال التصوير ومن خلال الدخول بالمخ وكذلك استخدام البرمجيات لتمثيل هذه هذه العمليات.

عن محمد قاسم

د. محمد قاسم هو أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية في الكويت، يحاضر في قسم الهندسة الإلكترونية، يعد ويقدم السايوير بودكاست (برنامج علمي تكنولوجي صوتي)، وكذلك يكتب في موقع الجزيرة (علوم)، ويشجع ويحث على العلم بشغف كبير.

شاهد أيضاً

القصة الملحمية… رحلة البطل

مقدمة القصة هي أفضل طريقة لإيصال الأفكار للناس، القصة لها تأثيرا ساحرا عليهم، هي التي …

13 تعليق

  1. ام عبدالرحمن

    مقال ممتع ومفيد ,شكرا لك

  2. جدا توسع أفقي بفضل هذا المقال، شكرا لك د. محمد

  3. مقال رائع و مفيد ،، أرجو منك الإكثار من هذه النوعية من البحوث الاجتماعية و النفسية

  4. شكراً دكتور محمد على هذه المعلومات القيمة

  5. اسمحي لي بالشير، الموضوع فيه فقرات مهمة لوضعنا الحالي في التصنيف في مصر.

  6. نحن اليوم بحاجة لأن نفهم بأن الهوية وتفرعاتها عبارة عن وهم لايجوز الانجرار خلف أنفعالاتها لأنها خطرة ومن الممكن أن تدمر المجتمع

  7. حقيقة استمتعت و أنا أقرأ هذا المقال .. جميل جدا

اترك رد