القصة الملحمية… رحلة البطل

speaker_icondisk
ipod

مقدمة

القصة هي أفضل طريقة لإيصال الأفكار للناس، القصة لها تأثيرا ساحرا عليهم، هي التي تجذب الناس للاستماع، وتبقيهم مستمعون، على العكس فإن سرد المعلومات كما هي لا يأتي بنفس قوة النتائج التي تأتي بها القصة، وقد بينت التجارب العديدة ذلك، القصة بدأت معنا منذ قديم الزمان، ولا تزال معنا إلى يومنا هذا تستخدم في جميع نواحي الحياة، وقد سمعت مقولة بأن القيادي الممتاز هو القيادي الذي يقص القصص الممتازة.

العلم كذلك مليء بالقصص، ولكن الناس عادة ما يتناقلون العلم بطرح جاف، فهم ينقلون المعلومات كما هي، يرمونها على الناس بإحصاءات ورسومات بيانية وقوانين رياضية وكلمات صعبة وأفكار معقدة، متجاهلين القصة التي أتت بها إلى هذه النتائج، فينفروا المستمعين عنهم، بإصابتهم بالملل السريع.

في هذه الحلقة سأبد بطرح أول قصة دونت في تاريخ البشرية، قد لا تكون هي أول قصة قيلت أو سردت، ولكنها كانت أول قصة كتبت على ألواح، وبقيت معنا عبر التاريخ إلى يومنا هذا، بعد ذلك سأبين إحدى أساليب السرد القصصي للأبطال، وسأبين تأثير القصة على الناس من الناحية العلمية، وفي النهاية سأتكلم عن القصة في العلم.

ملحمة جلجامش

ملحمة جلجامش تعد أقدم قصة في التاريخ تم تدوينها، كتبت هذه القصة على 12 لوحا على شكل أشعار، تأتي هذه الألواح بحجم 6 أو 7 إنش طولا وعرضا، وكتب عليها من الجابين، و يعتقد أنها كانت تقص على طلاب المدرسة قبل أكثر من 4000 عام.

اكتشفت هذه الألواح سنة 1853 عن طريق عالم آشوري من الموصل اسمه هرمز رسام، ثم ترجمت هذه الألواح لاحقا، وربما من أهم من ترجمها من اللغة الأكدية إلى الإنجليزية هو جورج سميث (وإن قام قبله آخرون بترجمة المكتوب، ولكنه جورج سميث نقل الترجمة نقلة نوعية)، حيث أنه هو كان أول من اكتشف قصة النبي نوح في هذه الألواح، بعد أن اكتشف القصة قال: “أنا أول رجل يقرأ هذا الشيء بعد أكثر من 2000 عام من النسيان”.

عاش جلجامش الملك حوالي ما بين سنة 2850 إلى 2700 قبل الميلاد في مدينة اسمها أوروك (الوركاء) في العراق حاليا، أو في السور سابقا، وتوفي بعمر 126 سنة، كان ملكا قويا جدا، وعالما وحكيما، وعُرف عنه أن أبوه إنسان وأمه آلهة. ولكنه عُرف بكون ثلثيه من بشر وثلث من الآلهة.

وحينما ترى النحت الذي نحت على هيئته ستراه وهو يحمل أسدا في يده اليسرى، ممسكا به من الرقبة، ومن هذه الصورة يمكن معرفة كم هو طويل القامة كبير الحجم بالمقارنة مع الناس الآخرين (وكأنه يمسك بقطة لحجمه الكبير بالمقارنة مع الأسد)، عرف عنه أنه قوي جدا، ولم يكن هناك رجلا واحدا يستطيع أن يتغلب عليه. هكذا وصفته القصة في المقدمة، وهي أيضا وصفته بكونه ظالما، حيث كان شعبه يخاف منه خوفا شديدا، وقد كان يدخلهم في حروب منهكة، وذكر عنه أنه حينما يتزوج الرجل كان يدخل على زوجته في الليلة الأولى.

gilgamesh

القصة

دعا عليه قومه الآلهة، أردوا أن يتخلصوا منه، فاستجابت لهم، استجاب لهم “آنو” وهو إله الآلهة، فاتفق هو وبقية الآلهة على خلق شخص يقابل جلجامش بقوته الكبيرة، فخلقوا “إنكيدو”. عاش إنكيدو في الغابة مع الحيوانات، يأكل من النباتات ويشرب من الماء، عاش عيشة الوحوش ودافع عنها.

في يوم من الأيام أتى صياد إلى الغابة ليصطاد الحيوانات كعادته، نصب فخاخه، وإذا به يرى إنكيدو، فدخل إلى قلبه الخوف الشديد من ضخامته وقوته وصوته المرعد، فرجع إلى أبيه، وأخبره بما رأى، وأخبره أيضا أنه كلما نصب فخا، أتى له إنكيدو فقطعه إربا إربا بقوته المذهلة. فأمره أبوه بأن يذهب إلى جلجامش، ليخبره بالمشكلة، وسيجد عنده الحل.

قابل الصياد جلجامش وأطلعه على خبر إنكيدو، فأمر جلجامش الصياد أن يأخذ معه “العاهرة المقدسة شامات” من معبد “إشتار” (بحسب ما قرأته بأن العاهرة كانت مقدسة وتعمل في المعبد، لا تسأل: “كيف يكون ذلك؟”، القصة أذكرها كما هي)، ثم طلب منه أن يأمرها بأن تنزع ثيابها، ليراها إنكيدو، ليرى مفاتنها، ثم ليدعهما معا.

ذهب الصياد مع شامات حتى وصلا إلى الغابة، وإذا بهم يرون إنكيدوا بعد أيام من الانتظار، وحينما اقترب انكيدو منهما، عملت بما أوصاها به جلجامش، فأعجب أنكيدو بها، فقضى معها 7 أيام وسبعة ليال، وبعد تلك الأيام إذا به ينكشف للحيوانات، فلم تعد تعرفه، وهربت منه، وفقد الكثير من قواه، ولم يستطع مجاراتها بالركض، وبالرغم من فقدانه لبعض مميزاته إلا أنه أصبح حكيما ومستنيرا.

طلبت منه شامات أن يأتي إلى مدينة أوروك معها ليترك الحياة الوحشية التي يعيشها، ولينتقل إلى الحياة المدنية، وطلبت منه أن يذهب إلى معبد إشتار، هناك سيتعرف على الملك جلجامش، الملك القوي، الذي هو بقوة الثور، السلطان على جميع الناس. فقبل ذلك، بشرط أن يذهب إلى جلجامش ويصارعه ليغلبه، فانطلقا معا إلى المدينة.

في تلك الأثناء حلم جلجامش بنجوم تسقط من السماء على الأرض، واحدة منها سقطت بالقرب منه، حاول أن يرفعها فلم يقدر، حاول أن يحركها فلم يقدر، فتجمع أهالي أوروك على الصخرة، فقبلوا رجلها، وكذلك أخذها هو بالأحضان، وعاملها كالصديق، واعتبرها مساوية له. أخبر أمه بالحلم الذي أقلقه، ففسرت له أمه آلهة الثيران الحلم، وأنه سيحصل على صديق يقف معه في الشدائد، صديق سوف ينقذه، صديق شديد القوة.

***

وصل إنكيدو وشامات إلى مدينة صغيرة قبل وصولهم أوروك، فلاحظ سكان المدينة انكيدو، فأعجبوا بهيئته الكبيرة وقوته الجسمانية، وبدى لهم كالصخرة التي سقطت من السماء، وعلموا أنه سيكون البطل الذي يخلصهم من جلجامش. قدموا له الخبز والخمر، ولكنه لم يكن يعرف ما الخبز ولا الخمر، فتوجس منهما، ولكنه أكل الخبز وشرب الخمر بعد أن طمأنته شمامات. ثم قام أهل المدينة بتسريح شعره الطويل وبتدليكه بالدهون. وفي المقابل قام انكيدو بحمايتهم من الأسود والذئاب، وبقي حارسا عليهم حين نومهم.

لاحظ انكيدو أن شابا يحمل الطعام وهو متجه إلى وجهة ما، ذهب إليه وسأله لمن ذلك الطعام، فأخبره أنه يتجه إلى حفل زواج، فمن عاداتهم أن تقام حلفة للمتزوجين، ويقدم لهم الطعام، ثم بعد ذلك يأتي جلجامش ليدخل على الزوجه قبل زوجها. فعضب انكيدو غضبا شديد لذلك، وقرر أن يواجهه، وأن لا يسمح له بالقيام بعمله المخجل.

توجه الجميع إلى الحفل، ودخلوا مدينة أوروك، فرآه الناس في المدينة، واجتمعوا حوله، ولاحظوا عليه القوة والضخامة، وعلموا أنه الوحيد الذي بإمكانه أن يواجه جلجامش. ذهب انكيدو إلى الحفل ووقف أمام الباب منتظرا قدومه.

أتى جلجامش إلى الحفل، فرأى أن انكيدو يصد الباب عنه، فغضب منه وطلب منه التحرك، فلم يستجب له، وبدأ الاثنان بالعراك، واهتز الحوائط من شدة الضربات، وقذف كل منهما الآخر بقوة شديدة، ولكن جلجامش تغلب على انكيدو، ووضع ركبته على جسده، فهدأ جلجامش، واعترف انكيدو له بقوته الكبيرة. ثم بكى انكيدو لفقدان قوته. واتخذه جلجامش صديقا عزيزا له بعد ذلك.

***

قرر جلجامش أن يذهب إلى الغابة، لقتال هومبابا، وهو الوحش الذي يحرس الغابة، وبعد قتاله سيقطع الأشجار ليأتي إلى قومه عزيزا شامخا، وقرر أن يأخذ معه انكيدو للمساعدة، فانكيدو يعرف الغابة جيدا، ولكن انكيدوا كان متخوفا من هومبابا خوفا شديدا. فهومبابا كان يتنفس النار، وصوته كالفيضان الهائل، وهو قادر على استماع أخف أصوات العشب في الغابة.

ولكن جلجامش لم يخف، وأصر على الذهاب رغم خوف انكيدو، فطلب جلجامش من الحدادين صناعة السلاح، وتجهز الاثنان للسفر، واستشاروا الناس قبل ذهابهم، فنصحوا جلجامش ألا يعتمد فقط على قوته، بل على علم انكيدوا بالغابة أيضا، ومع ذلك فقد حذروهم من الذهاب، ثم توجه جلجامش وإنكيدو إلى آلهة الشمس “شماش”، فطلبا منه المساعدة في قتالهم بدفع الهواء والزوابع لصالحهم من الجنوب والشمال والشرق والغرب. وكذلك فقد طلبت أم جلجامش من انكيدو أن يحميه من المخاطر.

انطلق جلجامش وانكيدو إلى الغابة على وجل، سافر الاثنان مع بعضهما أيام كثيرة ومسافات طويلة، وحلم جلجامش عدة مرات بأحلام مزعجة عن قتاله مع هومبابا، أخافته الأحلام كثيرا، ولكن انكيدو طمأنه بأن أحلامه لا تدل إلا على خير، وبعد كل ليلة من الأحلام أثناء السفر وتفسير انكيدو لها، اطمأن جلجامش.

وصل جلجامش وانكيدو إلى غابة الأرز التي كان يعيش فيها هومبابا، وعند وصلوهما إليها، بدأت المخاوف تدب في قلب إنكيدوا، وتغلغل الخوف إلى ذراعيه ورجليه، وطمأنه جلجامش، بأنهما معا، وأنه سيقاتلان جنبا إلى جنب.

توجه الاثنان إلى حيث كان هومبابا، واقتربا منه، فظهر لهما، وإذا به ذلك الوحش المخيف، تحدث معهما وحذرهما، وسفههما، فارتعد جلجامش من تهديد هومبابا، وسيطر انكيدو على مخاوفه، ودعا جلجامش لإزالة الخوف من قلبه، فاستقر جلجامش، وتوجه الاثنان بسرعة ناحية هومبابا بهجمة شرسة.

ضربت أرجلهم الأرض، فانشقت، وتصدعت الجبال، ثم بدأت الرياح بالتحرك لمساعدة جلجامش، حركها إله الشمس شماش، وتصارع البطلان بقوة إلى أن تمكنا من المسك بهومبابا، فإذا به يخر خوفا، ويطلب منهم المغفرة، ولكن انكيدو لم يقبل طلبه، وحرض جلجامش على قتله، فقتلاه، وقطعا رأسه.

قطع جلجامش وإنكيدو بعض الأشجار وحملوها معهما للرجوع إلى المدينة غانمين. فصنعا سفينة طوف من الأخشاب وركباها رجوعا.

***

أثناء رحلتهما رجوعا إلى المدينة، لاحظت “إشتار” آلهة الحب جلجامش، وأعجبت به، فطلبت منه تزوجها، ولكنه رفض، وأهانها إهانة كبيرة جدا، وبين سوء معاملتها لأزواجها السابقين، فغضبت غضبا شديدا، وانطلقت إلى السماء حيث كان أبيها آنو إله الآلهة موجودا، وبكت كثيرا، وأخبرته بإهانة جلجامش لها، ولكن أبوها عاتبها لكونها هي السبب في المشكلة، فلم ترضخ، ولم تعبه لكلام أبيها.

وطلبت منه ثور السماء، حتى تقتل به جلجامش، وإن لم يرضخ لطلبها ستقوم بتدمير البشرية كلها، بإحياء الموتى ليأكلوهم كلهم، فأخبرها أبوها أنه إن أطلق الثور ستكون هناك سبع سنوات عجاف في أوروك، وسيكون قبلها سبع سنوات سمان، فهل جهزت إشتار المحاصيل؟ فأخبرته إشتار أنها جهزت المحاصيل الكافية. فقبل أبوها بأن يعطيها الثور.

أنزلت إشتار الثور إلى الأرض، فشرب الثور الكثير من الماء على الأرض فجفت، وشرب ماء الفرات، فانخفض الماء كثيرا، فتنفس الثور فانشقت الأرض، وسقط فيها 200 رجل. فتنفس مرة أخرى فانشقت الأرض وكاد أن يسقط فيها إنكيدو، ولكنه قفز قبل أن يقع في جوفها وأمسك بقرنيه، فتصارع انكيدو وجلجامش مع الثور، وقتلاه بالسيف، ومزقا قلبه، وقدماه لإله الشمس شماش كأضحية، فغضبت إشتار لقتلهما الثور، ودعت عليهما بالثبور والويل، فقطع إنكيدو قطعة من الثور وقذفها على وجهها، وهلل الناس لانتصارهما.

***

أفاق انكيدو من النوم في يوم من الأيام، وقد حلم حلما أزعجه كثيرا، حيث رأى الآلهة مجتمعة بعد قتلهما هومبابا والثور، وقرروا أن ينتقموا مما قام به جلجامش وإنكيدو، وكانت نتيجة القرار أن يموت انكيدو ويبقى جلجامش. أخبر انكيدو جلجامش بالحلم، ففهم جلجامش تفسيره وتضايق كثيرا، ودعا الآلهة له كثيرا لكي لا يموت، ولكن لم تستجاب أدعيته.

دبت أعراض المرض في انكيدو، ازداد المرض شدة تدريجيا يوما بعد يوم حتى اليوم الحادي عشر، وتنفس نفسه الأخير ثم توفي من مرآى جلجامش، فحزن عليه حزنا شديدا، وبكى كثيرا، ودعا له كثيرا، وطلب من أهل المدينة أن ينحتوا له تمثالا.

بعد ذلك بدأ جلجامش بالتفكير بنفسه، إن أصاب الموت إنكيدو، فلابد أنه سيصيبه هو أيضا، إنه سيموت يوما ما، فلم يتقبل جانبه البشري، ولم يتقبل بأنه زائل، فقرر أن يبحث عن أكسير الحياة، وتجهز للذهاب إلى أتنابيشتوم الخالد الذي أعطي الحياة الأبدية بعد الفيضان العظيم، ليخبره عن سر بقائه حيا.

غادر جلجامش المدينة، وانطلق متجها إلى اتنابيشتم، توجه إلى الغابة، ونام هناك ليصحو وحوله الأسود، فقاتلها، وقتلها، ثم أكلها. سار في الغابة أياما طويلة، إلى أن وصل إلى جبل بقمتين، حيث كان يحرس الممر عقربان كبيران مخيفان ، نظرتهما كانت تدلان على الموت، فخاطب العقربين جلجامش، وسألاه عن سبب حضوره إلى هذا المكان، فقال لهما أنه يبحث عن أتنابيشتوم، فأخبراه أنه لم يستطع أحدا الوصول إليه في السابق، فلم يستطع أحدا تجاوز الممر المظلم بين الجبلين، نظر العقربان إلى حالة جلجامش المزرية بسبب سفره الطويل، فتعاطفا معه، وسمحا له بالمرور.

دخل جلجامش بين الجبلين، فأصبحت السماء مظلمة، ومشي في الظلام ساعات وساعات، ثم ركض لساعات في وسط الظلام الدامس، لم يستطع أن يرى أمامه أو خلفه، إلى أن فرجت، وفي نهاية الممر وجد النور مرة أخرى، وعند تلك النقطة وجد حديقة الآلهة، هناك رأى إله الشمس شماش بهيئته الجميلة، فعطف عليه شماش لحالته الرثة. وتحدث معه قليلا، ثم غادر جلجامش الحديقة.

وصل جلجامش إلى منزل بجانب البحر، وكانت هناك امرأة تصنع الخمر في ذلك البيت، فخافت منه لهيئته السيئة، حاول جلجامش دخول بيتها ولكنها أوصدت الباب، وبالرغم من أنه كان قادرا على كسره، إلا أنه تحدث معها بدلا من أن يستخدم قوته، فأخبرها أنه جلجامش ملك أوروك، ولكنها لم تصدقه، لأنه لم يبدو بهيئة الملوك، فقد ذابت جلدته من التعب، فأخبرها عن بحثه عن الحياة الخالدة، وعن أتنابيشتوم، وطلب منها أن تخبره عن الوجهة التي تؤدي إليه، فأطلعته على الطريق، ولكنها حذرته من تجاوز البحر الذي يؤدي إلى أتنابيشتوم، حيث أن قطرة واحدة منه ستقتله، وأخبرته أيضا عن “أورشنابي” الذي لديه قارب، فهو بإمكانه مساعدته باستخدام الصخور التي تنقل الناس عبر ذلك البحر المميت.

توجه جلجامش إلى الغابة، وأكمل الطريق إلى أورشنابي، فلما رآه اعتقد أن جلجامش سيستخدم السلاح ضده، فرفع أورشنابي فأسه ليضرب جلجامش، فأمسك جلجامش بيد أورشنابي، وضرب الصخور التي كانت حوله، فتهشمت، توقف جلجامش بعد أن عرف أورشنابي بنفسه، وعلم بأن جلجامش أراد أن يعبر البحر، ولكن المشكلة الآن أن جلجامش حطم الصخور التي كانت تنقله عبر بحر الموت، ولم يعد هناك سوى طريقة واحدة للانتقال.

طلب أورشنابي من جلجامش أن يقطع 300 عصاة من الشجر بطول محدد، ففعل ذلك، وأحضرها جميعا، فركبا السفينة، وعبرا الماء إلى أن وصلا إلى بحر الموت، ثم أنزل جلجامش عصاة تلو الأخرى في العمق ليدفع بالسفينة إلى الأمام، وفي كل مرة يدفع باستخدام عصاة كان يتخلص منها، وذلك حتى لا يلمس الماء الذي تشرب فيها يده، وهكذا إلى أن وصلا إلى الضفة.

***

وجدا رجلا كبيرا في السن، فسأله جلجامش عن أتنابيشتوم، الرجل الذي عاش حياة أبدية بعد الفيضان الكبير، وأنه يريد أن يعرف كيف حصل على الحياة الأبدية الخالدة. وبعد أن تبدلا الحديث عن صداقته مع إنكيدو وقتلهما هومبابا وثور السماء، ثم وفاة إنكيدو وحزن جلجامش عليه، وبحثه عن أتنابيشتوم وقطعه المسافات الطويلة والمغامرات الكثيرة، وبخه الرجل على تركه لكل ما كان لديه من حياة طيبة في مقابل مغامرة مضنية.

نظر جلجامش إلى الرجل، فشعر بأنه هو أتنابيشتوم، إنه هو الرجل الذي كان يبحث عنه، فهدده بأنه سوف يصارعه من أجل السر، سر الحياة.

بدأ أتنابيشتوم بسرد قصته على جلجامش. عاش أتنابيشتوم في مدينة “شوروبا” القريبة من الفرات، كانت المدينة قديمة، وكانت الآلهة تعيش فيها، ولكن الناس أصبحوا أشرارا فيها، فغضبت الآلهة لشرورهم، ولذا قررت أن تغرق الأرض بمطر عظيم لمحوهم جميعا، فأخفوا سر الفيضان عنهم، وحلفوا أن لا يطلعوا أحدا على الخطة.

“إيا” آلهة الحكمة، لم تخبر أحدا من الناس ولكنها كانت ذكية، فقد تحدثت مع سياج منزل أتنابيشتوم، حتى يسمعها بطريقة غير مباشرة، طلبت من السياج أن يحذره من الفيضان، وأن يأمره بصناعة سفينة كبيرة، وأن يترك كل ممتلكاته، فنفذ أتنابيشتوم أوامرها، وسألها، ما عساه أن يخبر الناس حينما يكتشفون بأنه يجهز سفينة؟ فردت عليه بأن يخبرهم أن الآلهة غاضبة عليه، وهم الذين طلبوا منه الخروج من المدينة.

قام أهل المدينة بمساعدة أتنابيشتوم بصناعة سفينة كبيرة، إلى أن اكتملت، ثم أنزلوها في النهر بجهد كبير، فجمع الحيوانات كلها فيها.

بعد ذلك بدأت الآلهة بإنزال العواصف والرعد والبرق والمطر، وأصبحت السماء مظلمة، وهطلت الأمطار، وفاضت الأرض، حاول الناس الهروب ولكنهم وماتوا جميعا، وحتى الآلهة خافت خوفا شديدا من هول المشهد، فتوجهت إلى السماء، وحزنت مما فعلت، وندمت على فعلتها، وبكت على موت البشر. بقيت العواصف والأمطار تنهطل لسبعة أيام، ثم هدأت الرياح بعد ذلك، وهدأت معها المياه، وظهرت الشمس مرة أخرى.

بحث أتنابيشتوم عن أرض لينزل السفينة عليها، ولكنه لم يجدها، وبعد إبحار وجد جبلا فأرسى السفينة عليه، وبقي على الجبل لسبعة أيام، فبعث بحمامة، فإن عادت فذلك يعني أن الماء لا يزال يغطي الأرض، وأنها لم تجد أرضا لتستقر عليه، وإذا بها تعود مرة أخرى، ثم أرسل طائر السنونو وهو أيضا عاد، بعد ذلك أرسل غرابا، فطار بعيدا، ولم يعد مرة أخرى. فعلم أن الأرض ابتلعت الماء، فذبح أضحية للآلهة، وأعجبت الآلهة برائحة الذبيحة، وأتت إليه للمشاركة في الوليمة.

غضبت الآلهة لاكتشافهم أن أشخاصا نجوا من الفيضان، كان من المفروض أن يموت الجميع، وعلموا أن “إيا” كانت هي السبب في كشف السر، ولكنها سبقتهم وبخت الآلهة لفعلهم المشين، فكيف لهم أن يمحو البشر كلهم؟ فلماذا لم ينزلوا العذاب على المستحق فقط؟ ولماذا لم يرحموا غير المستحق؟ لماذا لم يرسلوا الأسود أو الذئاب لأكل المذنب؟ لماذا لم يصيبوا المذنبين فقط بمجاعة تقضي عليهم؟ ربما كان توبيخها دفاعا عن موقفها لحماية أتنابيشتوم من الفيضان، ثم طلبت منهم أن يقرروا ما سيفعلوه به هو وزوجته، فقررت الآلهة أن يعطوهما الحياة الخالدة، ليصبحا كالآلهة، وقرروا أن يبعدوهما عن باقي البشر، ونقلوهما بعيدا.

***

بعد أن سرد أتنابيشتوم قصته لجلجامش، سأله من من الآلهة سيدافع عنه؟ من سيعطيه الحياة الخالدة؟ ثم بعد ذلك أراد أتنابيشتوم أن يختبر جلجامش، ليرى إن كان يستطيع أن يبقى يقضا لمدة ستة أيام وسبعة ليال، كما كان هو في السفينة كل تلك المدة، ولكن بمجرد جلوس جلجامش على الأرض فإذا بالنعاس يتغلب عليه، فلم يستطع أن يقاوم، ونام.

طلبت زوجة أتنابيشتوم منه أن يفيقه من النوم ليرجع إلى بلده، ولكنه رفض، وأخبرها إن فعل ذلك لن يصدق جلجامش أنه نام، فقرر أن يدعه ينام إلى أن يفيق بنفسه، حتى يثبت له أنه نام فعلا.

طلب أتنابيشتوم من زوجته أن تصنع له خبزة لكل يوم يمر على جلجاميش وهو نائم، وأن تضع الخبز بجانب رأسه، مع مرور كل يوم من الأيام كان الخبز يتعفن، وكل مستوى من التعفن سيدل على المدة التي نام فيها جلجامش. في اليوم السابع كانت الخبزة الأولى متعفنة كثيرا، والخبزة الأخيرة كانت طازجة.

أفاق جلجامش من النوم، فسأله أتنابيشتوم عن المدة التي لبثها في النوم، فرد عليه أنه أغلق عينيه للحظة بسيطة حتى أفاقه أتنابيشتوم ، لم يكن ليصدق جلجامش أنه نام طويلا حتى أراه أتنابيشتوم الخبز على مدى الأيام السابقة، كل بدرجة عفنه بحسب عدد الأيام.

بعد ذلك طلب أتنابيشتوم من أورشنابي إرجاع جلجامش من حيث أتى، وطلب من أورشنابي أن لا يعود بعد أن كشف مكانه، فأخذ أتنابيشتوم جلجامش وفي الطريق أخبره على سر نبات الآلهة، وهو النبات الذي يعطي الشخص الحياة الخالدة، المشكلة كانت تكمن في أن النبات هذا في عمق البحر، وعليه أشواك كثيرة، من يقدر أن يمسك به رغم شوكه سيمتلك الحياة الخالدة.

ربط جلجامش أحجارا ثقيلة برجليه وغاص في البحر، وبحث عن النبتة، فوجدها، وأمسك بها رغم أشواكها، وأخرجها من الماء، ثم قرر أن يعود بها إلى المدينة ليفتخر بها أمام الملأ، ثم ليأكلها أمامهم ليصبح شابا مرة أخرى، سيحيى إلى الأبد، ولكنه أثناء العودة ذهب ليسبح في الماء، وإذا بثعبان يشتم رائحة النبتة، فأتى لها وأخذها وزحف بعيدا بها، وترك خلفه جلده القديم، حينما عاد جلجامش واكتشف أن النبتة أخذت بكى كثيرا ووبخ نفسه وتحسر على الجهد الكبير الذي بذله من أجل الحياة، ورجع إلى مدينته خالي اليدين.

هذه كانت قصة جلجامش، وإن كانت هناك بقية في اللوح الثاني عشر، إلا أنه لا يرتبط بتسلسل القصة هذه، وتذهب القصة الأخيرة لرحلة غريبة لجلجامش وإنكيدو خارج نطاق تسلسل القصة التي ذكرتها. أعتذر من اختصار القصة وإزالة الحوارات التي فيها، كذلك فإن القصة تحتوي على التكرار، وغرائب كثيرة في أسلوب الكتابة، ولكن ما ذكرته هو مجمل قصة جلجامش.

أقوى القصص

ربما شاهدت الكثير من الأفلام السينمائية، قد تكون شاهدت فيلم حرب النجوم مثلا، أو ربما سيد الخواتم، أو فيلم سبايدرمان، أو الميتركس، أو حتى الكثير من الأفلام غير الخيالية، أو قد تكون قرأت قصصا وأعجبت ببطلها، الكثير من هذه القصص تعتمد على منهج أساسي لتطوير شخصية البطل، يطلق عليها باسم “رحلة البطل” وكذلك Monomyth، أسس لمبادئها جوزيف كامبل في كتابه: “البطل بألف وجه” أو “البطل الذي يمتلك ألف وجه” (The Hero with a Thousand Faces)، وهو الأسلوب الرئيسي لهوليوود في قصصها البطولية.

قام جوزيف كامبل بتكوين هذه المبادئ استنادا على قراءاته للتاريخ، من قصص الشخصيات الأسطورية، أو الأنبياء، أو الرسل وغيرهم على مدى آلاف السنين، وحدد الملامح المهمة في رحلة الشخص العادي من حياته العادية حتى أن يصبح بطلا. وسأمر على هذه المحطات الأساسية بسرعة:

1. يبدأ بطل القصة عادة في عالم اعتيادي، وهو بنفسه شخص اعتيادي في ذلك العالم.

2. يأتيه نداء لمغامرة، يكون في تلك المغامرة تحد أو مشكلة.

3. يتردد البطل في البداية، ويكون خائفا لأنه سيواجه مصاعبا كبيرة.

4. يتم تشجيع البطل عن طريق حكيم أو شخصية فوقية، تقدم له النصائح والتدريب، ولكن هذه الشخصية لا تستطيع أن تساعده في جميع المراحل، أحيانا يحتاج البطل أن يواجه المصاعب بنفسه.

5. يتعدى البطل المرحلة الأولى بدخوله إلى عالم جديد، وهنا تبدأ مغامرته. يدخل إلى عالم جديد تختلف ظروفه، وهي غير مألوفة بالنسبة له.

6. يواجه البطل المصاعب والاختبارات والتحديات، وفي نفس الوقت يستعين بمساعدين.

7. بعد ذلك يدخل البطل إلى أصعب وأخطر المراحل في هذه الرحلة، وربما يواجه الموت، بالنسبة لنا المشاهدين أو المتابعين لهذه الأحداث، لن نراها، نحن ننتظر خروج البطل من تلك الظلمات والمصاعب، وربما سنظن أنه مات، وربما يموت ثم يحيى مرة أخرى.

8. بعد نجاة البطل من الموت أو المصاعب، يحوز على كنز أو جائزة، قد تكون هذه الجائزة شيء مادي مثل سيف، أو شيء معنوي مثل العلم أو الحب مثلا، فيخرج بها إلى عالمه. ولابد لأن ينتبه لأن هناك من قد يسرق منه هذا الكنز، وقد يدخل في مغامرة أخرى أثناء رجوعه إلى قومه بالجائزة.

9. يتغير البطل من أثر المصاعب ويتحول إلى شخص آخر، لقد أصبح شخصية أخرى تختلف عن تلك التي بدأت في بداية القصة، ينظر للعالم بطريقة مختلفة، حتى وإن عاد ليعيش حياته الاعتيادية، إلا أنه شخص غير اعتيادي بعد هذه التجربة.

10. بعد ذلك قد يغير العالم الذي يعيش فيه باستخدام تلك الجائزة التي حصل عليها.

حاول أن تتذكر قصص الأنبياء ستجد أن الكثير منهم خطى بهذه الخطى، ربما لن يمر الشخص بكل هذه المراحل بالترتيب أو بنفس الطريقة بالضبط، ولكن ستجد بعض هذه الخطوات جلية في مسيرتهم. حتى قصة جلجامش كانت من هذا النوع، ربما في ما عدا كونه شخصا عاديا في البداية.

تأثير القصة على الناس

لقد تناقل البشر قصة جلجامش على مدى التاريخ، بل إن العلماء اكتشفوا عدة ألواح تعود لفترات مختلفة لنفس القصة، أي أن الحضارات المختلفة دونتها على مر التاريخ، لم تكن حضارة واحدة بل عدة حضارات احتفظت بها، وإلى يومنا هذا، بقيت بعض ملامح القصة هنا وهناك، لماذا هذا الاهتمام في تناقل القصص؟ ببساطة لأن القصة هي طريقة محببة لتناقل المعلومات، المخ يعشق القصة، ويتفاعل معها بأسلوب مختلف عن نقل المعلومات بغيرها.

الدراسات تبين أنه حينما نذكر فكرة معينة كما هي من غير طرحها بأسلوب قصصي، فإن المخ لا يتفاعل معها كما يتفاعل مع القصة، فالقصة تجعل الشخص يعيش أحداث الفكرة، ويتفاعل معها كما يتفاعل مع الحقائق.

استمع لما سأقوله الآن: “السياسة مأخوذة من ساس، أو هو مأخوذ منها، على خلاف بين النحوين، ومضارع الفعل يسوس، أي إن المادة واوية، كما نص على ذلك السرقسطي، موردا الكلمة تحت (فعل) بالواو سالما، و(فعل) معتلا، واصطلاحا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعرف إجرائيا حسب هارولد لاسويل بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا متى وكيف”

هل فقدت سلسلة أفكارك أثناء استماعك لهذه الجمل؟ يحق لك ذلك، فمخك لم يتفاعل معها بالكامل.

الآن استمع للتالي: “بعد أن فشلت سعاد في اختبار مادة السياسة ركبت آلة الزمن ورجعت ثلاثة أيام إلى الماضي إلى غرفتها حيثما كانت تدرس للاختبار، انتهزت فرصة خروجها من الغرفة لشرب الماء، وقبل أن تعود سعاد الماضي إلى الغرفة دخلت سعاد المستقبل بسرعة، وزرعت عدة إجابات للأسئلة التي أتت في الاختبار، فذكرت في واحدة من الأوراق: السياسة مأخوذة من ساس، وفعلها المضارع يسوس. وخطت بخط فسفوري الجمل المهمة في الكتاب، حتى تركز عليها حينما تعود لقراءتها.

“سمعت سعاد صوت أقدامها تقترب من الغرفة، فاستعجلت وتركت آخر ورقة وفيها التفصيل: السياسة تعني اصطلاحا…”، هل أكملت معي استماع هذه القصة؟ هل سئمت منها كما سئمت المعلومات التي سبقتها؟

ما الذي حدث في مخك حينما استمعت للقصتين؟ حينما ذكرت لك المعلومات الجافة في البداية اشتعلت لديك منطقتين في المخ، الأولى يطلق عليها بروكا (Broca) والأخرى هي ويرنيك (Wernicke)، هذه المناطق مسؤولة عن معالجة اللغة والمعاني في المخ، ولكن لما استمعت للقصة اشتعلت لديك مناطق الحركة في المخ بالإضافة للمنطقتين المختصتين باللغة والمعاني، فأصبحت مشاركا في الأحداث بدلا من أن تكون مراقبا لها فقط، أي أن المخ يقوم بنمذجة القصة بداخل المخ كما يقوم الكمبيوتر بإنشاء العالم الافتراضي. فرق بين القصة وبين أن تسرد المعلومات كما هي.

وقد أقيمت عدة دراسات باستخدام الإف إم آر آي (fMRI) تبين تأثير القصة على مجموعة من الأشخاص، وتبين أن هذا هو ما يحدث بالضبط. من هذه الدراسات نشرت واحدة في مجلة علم الأعصاب (Neuroscience)، وقد أقيمت الدراسة سنة 2006 على مجموعة من الأشخاص.

هناك أيضا دراسات تبين أن الأشخاص الذين يقرأون القصص لديهم قدرة أكبر على الفهم الآخرين والتعاطف معهم عن أولئك الذين لا يقرأون القصص، دراستان نشرت بهذا الصدد سنة 2006 وكذلك سنة 2009 للدكتور كيث أوتلي (Keith Oately)، وهو المختص في السيكولوجيا الإدراكية من جامعة تورونتو.

وكذلك فإن العلماء اكتشفوا أن الأطفال الذين تُقرأ لهم القصص تتطور لديهم ما يسمى بنظرية العقل (نظرية العقل على عجالة هي قدرة الشخص على أن يضفي خاصية العقل للآخرين، حينما تتفاعل مع الغير فأنت تتفاعل معه على أساس أن لديه معتقدات ورغبات وعلم ونوايا تختلف عن معتقداتك ورغباتك وعلمك ونواياك، نحن نعلم أن لدى الآخر عقلا، لأننا نعرف أنفسنا من الداخل، فنضفي صفة العقل للآخرين لأننا نسقط تجربتنا الخاصة الداخلية عليهم، وحينما نقوم بذلك نستطيع أن نفهمهم أكثر، ونتنبأ بما يفكرون به، وما سيقومون به، نحن نستخدم هذا الأمر دائما في حياتنا مع الآخرين حينما نقرأ ما بين السطور في تفكيرهم، أو حينما نتألم لتألمهم، فنحن لا نشعر بألمهم مباشرة، بل نحن نحس بما يحس به الآخرون من خلال فهمنا لحالتهم العقلية، وعلى الجانب الآخر من عدم فهم نظرية العقل تجد الأطفال المتوحدون، فمنهم من لا يفهم بماذا يفكر الطرف الآخر، ولا يحس بما يحس به الآخرون).

ولهذا أنا دائما أحث على قراءة القصص وفي أي باب كانت (وإن كنت من عشاق الخيال العلمي شخصيا)، فالقصص ليست فقط ممتعة، بل هي مفيدة جدا أي كان نوعها، وأتذكر ما ذكره الفيلسوف المعاصر د. ماسيمو بيليوتشي حول القصة، حيث يعتبر القصص كالتجارب الذهنية، فهي تجر الشخص للتفكير بالأشياء، فربما لا يستطيع أن يطبقها مباشرة في الواقع، فيدرس احتمالاتها، ويجربها بداخل ذهنه.

العلم والقصة

العلم لا يعتمد القصة أو السرد القصصي لإثبات النظريات، بل يعتمد على التجارب العلمية الدقيقة المكررة. وقد ذكرت هذا الشيء مرارا وتكرارا، سواء في البودكاست أو في المحاضرات أو التسجيلات الصوتية هنا وهناك. فمثلا لا يمكن للعالم أن يأتي ويقول: “بعد أن أكل خالي البطيخ شفي من مرض السرطان، وهذا دليل على أن أكل البطيخ يشفي السرطان،” أو أن يقول: “بعد أن لبست حذاء نايكي اكتشفت أنني وصلت إلى العمل بسرعة أكبر، وهذا دليل على أن حذاء نايكي يزيد من سرعة الخطوات،” مثل هذه التجارب الشخصية يطلق عليها باصطلاح “السرد القصصي”، ولا يعتد بها أبدا.

قد يبدأ العالم بهذه الفرضيات، ويفترض أن البطيخ يعالج السرطان، أو أن الحذاء يوصل بسرعة، ولكنه، وبعد ذلك ينطلق إلى القيام بالتجارب العلمية، ثم يقوم بحسابات رياضية وإحصاءات، وغيرها، ثم ينشرها ليكررها غيره ويتأكد منها العلماء الآخرين ليتم مناقشتها، ثم تأكيد العلماء المعلومات يستطيع أن يؤكد صحة نظريته، أما أن يدعي الادعاءات الأولى فلن تكون لادعاءاته قيمة علمية أو عملية.

هذا النوع من السرد القصصي منبوذ في عالم العلم الدقيق، ولكن ما أتحدث عنه في هذه الحلقة ليس هو الوصول إلى النتائج العلمية باستخدام القصة، إنما أتحدث عن نشر الفكرة أو في هذه الحالة العلوم الصحيحة باستخدام القصة، أي إن بعد أن أصبحت الفكرة ناضجة علميا، يتم نشرها بأسلوب قصصي جذاب.

وإلا إن نشرت بطريقة سردية مملة مليئة بالأرقام والإحصاءات والصور الإنفوغرافية، وما إلى ذلك، فلن يكون للعلم لذة. قد يستمتع به العالماء، لأنهم أصبحوا مدربين على ذلك، وأصبحوا يحبون اللغة المعقدة، ولكن إن أردنا توسعة رقعة محبي العلم فلن تكون هذه الطريقة مجدية.

العلم يحتوي على عدة مواد يمكن الاستفادة منها لطرحها بأسلوب قصصي:

1. فهناك قصصا شخصية ارتبطت بالعلم، ففي الحلقة السابقة ذكرت قصة هنري ملايسون، وهي قصة حقيقة لمريض أصيب بالصرع، ومن خلال إزالة أجزاء من مخه فقد قدرته على تذكر الأحداث الحديثة، هنري كان أحد أهم الأسباب الرئيسية لتطور المعرفة المتعلقة بالذاكرة، هذه كانت قصة مؤثرة جدا، وفيها تجارب قيمة، ولعل من سمع الحلقة انجذب لها بشكل كبير، هل تتذكر قصة هنرياتا لاكس الجميلة أيضا؟ الامرأة التي أنقذت ولا تزال تنقذ البشر من الأمراض، هذه كانت واحدة من الحلقات الأولى في البودكاست، قصتها مؤثرة جدا، وفيها من العلم ما ساهم في إنقاذ وتحسين حياة البشر جميعا، ومن خلال تلك القصص يمكن إيصال العلم بأسلوب شيق، وسيحبه الناس.

2. هناك العديد أيضا من التجارب – حتى البسيطة منها – كلها جميلة ومؤثرة، إن ذكرت ستكون لها قوة جاذبة، ومؤثرة عليه. ليست بالضرورة أن تكون هناك معاناة كما في قصة هنري ملايسون أو هنرياتا لاكس، ولكن التجربة بما هي كتجربة تكفي لأن تكون قصة مؤثرة، وقد استخدمت هذا الأسلوب في الطرح في كل حلقاتي تقريبا، سردت العديد من التجارب العلمية بحيث أربط النتيجة التي توصل لها العلماء بالطريقة التي أوصلتهم لهذه النتائج، فالتجربة هي قصة، ولها سحرها الخاص. منها التجارب على البشر، ومنها التجارب على الحيوانات، ومنا التجارب على الجمادات (الفلكية وغيرها مثلا).

3. هناك أيضا طريقة عمل الأشياء، هذه يمكن أيضا أن تكون قصة، خذ على سبيل المثال من روائع القصص في عالم الحيوان كيفية تربية أو عدم تربية طير الواق واق لصغاره، طائر أقل ما يقال عنه أنه عجيب، يأتي لأعشاش طيور أخرى، ثم يبيض في هذه الأعشاش بيضه في وسط بيض الطير الآخر، ثم يهجرها ليسافر بعيدا عنها. فيفقس بيضه أسرع من بيض الطير الآخر، ويخرج الكتكوت الصغير وليس عليه ريشة واحدة، ثم يبدأ بحمل بيض الطير الآخر قبل أن يفقس على ظهره، ويرفعه إلى الأعلى بجهد كبير، إلى أن يوصله إلى فوهة العش، ثم يرمي به من أعلى الشجرة، لينكسر، فيرميها واحدة تلو الأخرى، حتى لا يبقى في العش غيره، فينمو فيه، ويغذيه الأبوان المتبنيان المغفلان، وقد يصبح أكبر منهم جسمانيا بكثير، حتى إذا ما تمكن من الطيران غادر العش، وهاجر بعيدا جدا، إلى أن يكبر، ثم يعود مرة أخرى باحثا عن نفس الأعشاش، ليبض فيها هو ويجدد دورة التبني من جديد، الغريب في هذا الطائر أن كل نوع منه يبيض في أعشاش مختلفة لطيور مختلفة، وكل من هذه الطيور تبيض بيضا ألوانه مختلفة، ومع ذلك تجد أن كل نوع من الواق واق يبيض بيضا تتشابه ألوانه مع ألوان بيض الطائر المتبني، كيف حدث ذلك؟ كيف يفسر علماء التطور هذه الإمكانية لطائرة الواق واق؟ هذه قصة أخرى جميلة ومبهرة جدا. إذن، آلية عمل الأشياء هي أيضا قصص جميلة، وسردها جاذب للمستمع.

4. هناك أيضا قصص العلماء، فهم أيضا عانوا الكثير من المصاعب لكي يصلوا إلى نتيجة علمية مهمة، من منا لا يحب أن يستمع إلى معاناة الآخرين، وكيف تغلبوا على المصاعب للوصول إلى الأهداف؟ هذه القصص وإن لم يكن لها قيمة مباشرة على المعلومات العلمية إلا أنها دافع كبير للمستمع لأن يتمنى أن يكون مثلهم، ويرى نفسه فيهم، وربما يدفعه يوما ما لأن يجتهد كما اجتهدوا. من منا لا يحب أن يعرف كيف توصل آينشتاين إلى نظرياته في مكتب براءة الاختراع البسيط (حينما تقرأ قصة آينشتاين تستشعر بعض نقاط جوزيف كامبل في رحلة البطل)، من منا لا يود أن يعرف معاناة ستيفن هوكنج في مرضه الذي أوصله جثة هامدة على كرسيه، ولكنه رغما عن ذلك فكر بأعظم الأفكار الكونية؟ مثل هذه القصص تعطي دافعا لكل الناس للعمل بجدية أكبر في السلك العلمي.

5. هناك القصص التاريخية لتطور العلم، كيف كان؟ وكيف أصبح؟ ماذا كان العلماء يعتقدون في السابق؟ وماذا يعتقدون الآن؟ العلم تسلسل، ومر بمراحل حتى وصل إلى القوة التي هو عليها الآن، كل هذه التطورات التكنولوجية المذهلة لم تكن لتأتي لولا أنها مرت بمنخفضات ومرتفعات تاريخية، المرور بهذه المراحل هي أيضا قصص، وذكرها هو أيضا جذاب.

البعض قد يظن أنني نحوت إلى جانب الأدب في السايوير، وكأنما الحلقات السابقة كانت خالية منه، لقد تناسى القصص الخيالية التي ألفتها وسردتها في السابق، ربما كان هناك جانب أدبي بداخلي، فقد قرأت الكثير من قصص الخيال العلمي في مسيرة حياتي، وقرأت الكثير من الكتب التي تشرح كيفية كتابة القصة، قد تميل هذه الحلقة إلى الأدب مع هدف نقل العلم بواحدة من أساليبه، وحتى ننقل العلم للناس لابد من استخدام أفضل أدوات تناقل المعلومات، فكل منا بداخله نسيج من الأدب والعلم وغيرها من الأفكار، وكلنا نحب القصة، ونتأثر بها أشد التأثر. لذلك نحتاج أن نغرس العلم في أذهان الناس باستخدامها.

المصادر:

1. Gilgamesh, The New Translation, Gerald J. Davis

2. The Epic of Gilgamesh A Gragment of the Gilgamesh Legend in Old-Babylonian Cuneiform, Stephen Langdon

3. The Epic ofGilgamesh, John Harris

4. The Epic of Gilgamesh, The Podcast History of Our World

5. The Hero with a Thousand Faces, The Collected Works of Joseph Campbell

6. The Science of Storytelling: What Listening to a Story Does to Our Brains

7. Your Brain on Fiction, The New York Times.

عن محمد قاسم

د. محمد قاسم هو أستاذ مساعد في كلية الدراسات التكنولوجية في الكويت، يحاضر في قسم الهندسة الإلكترونية، يعد ويقدم السايوير بودكاست (برنامج علمي تكنولوجي صوتي)، وكذلك يكتب في موقع الجزيرة (علوم)، ويشجع ويحث على العلم بشغف كبير.

شاهد أيضاً

كيف نحسب الوقت؟

مقدمة بداية، أود الاعتذار عن الإطالة في تقديم حلقة جديدة من السايوير بودكاست، الظروف لم …

تعليق واحد

  1. من المحزن أن تستمع لهذا الأرث الحضاري منذ آلاف السنين وتشاهد الغوغاء وهم يدمرونه
    بالأمس جرفوا مدينة النمرود الأثرية وقبلها مدينة الحضر والثور المجنح
    آثار بعمر 5000 سنة ذهبت ولن تعود

اترك رد